سمير الشيخلي والخمسة مليون دينار.. الجنطة مثال للأمانة على المال العام
مليح صالح شكر
للجنطةِ حكاياتٌ كثيرةٌ تحتاج للتذكير في هذا الزمن الرديء الذي أصبح فيه الفسادُ والاختلاسُ والرشوةُ من سماتِه السيئة .
وقد استذكرتُ هذه الحكاية بعد مشاهدتي لمقابلة إحدى الفضائيات في تموز عام 2022 مع سمير عبد الوهاب الشيخلي عضو القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة ووزير الداخلية في حقبة من حقب تاريخ العراق.
اجراءات ادارية
تحدث الوزير الشيخلي بفخر عن إعادته حينما كان وزيراً للداخلية لحقيبةٍ فيها خمسةُ ملايين دينار( 15 مليون دولار آنذاك) هي وفقا ً للقانون نثرية وزير الداخلية يصرفها كما يرغب لخدمة منصبه دون مطالبته بإيصالات رسمية،
ورفضها!
نعم رفضها!
كنتُ في القاهرة عام 1977 محرراً لمكتب وكالة الأنباء العراقية في العاصمة المصرية. وقد اقتضت الإجراءات الإدارية المعمول بها حينئذ استبدال المستشار الصحفي فاضل عبد الغفور الشاهر بعد أن قضى برضى مراجعه الرسمية ببغداد فترة أطول من فترات العمل المعتادة في الخارج ليحل محلّه ماجد أحمد السامرائي.
كان فاضل الشاهر قد أعد مقراً جديداً للمركز الثقافي العراقي في الجيزة ليس بعيداً عن فندق شيراتون بالقاهرة الذي كان مع فندق هيلتون الفندقين الكبيرين الوحيدين بالعاصمة المصرية.
وجرى افتتاح ذلك المركز الثقافي في حفل كبير حضره حشدٌ من المثقفين والصحفيين والسياسيين المصريين بينما كان الفنان صلاح السعدني يؤدي مهمة عريف الحفل أمام المايكروفون!
عندما التحق ماجد أحمد السامرائي المستشار الصحفي الجديد بعمله كان لابد أن يقوم الشاهر بعملية تسليمٍ وتسلُّمٍ مع المستشار الجديد ، وكنت أنا ، وأحد موظفي قسم الحسابات بالسفارة الشهود حسب الأصول المرعية.
تلك الحادثة التاريخية أوضحت بشكل لا لبس فيه نزاهة موظفي الدولة ودبلوماسييها وأمانتهم في التصرف بأموال الدولة.
والحقيبة الأخرى التي أستذكرها حصلت في القاهرة بين فاضل الشاهر وماجد السامرائي المستشار الصحفي المنقول وزميله الذي سيتسلّم المنصب بعده.كانت وزارة الثقافة والإعلام والمجلات الثقافية والتراثية والصحف ببغداد تستكتب كتاباً وباحثين وصحفيين مصريين لنشر مقالاتهم في المطبوعات العراقية مقابل أجور ومكافآت لم تكن كبيرة لكنها حسب مكانة الكاتب والموضوع الذي ينشره.
صرف مبلغ
واعتاد فاضل الشاهر أن يقوم بصرف أجورِ ومكافآتِ النشر لأولئك الكتاب مقابل إيصالات بثلاث نسخ: واحدة للمتسلّم وواحدة يرسلها إلى الجهة التي خوّلته بصرف المبلغ في بغداد ، ويحتفظ بالنسخة الثالثة في أرشيف الدائرة الصحفية بالقاهرة.
وفي كل عملية تسلُّمٍ وتسليمٍ إجراءاتٌ تقليديةٌ تتضمّنُ جَرْداً بممتلكات الدائرة المعنية ، وجردَ الأثاثِ من مكاتبَ وكَرَاسٍ ، ولم تكن في المركز الثقافي العراقي آنذاك سوى أجهزة إستنساخ وآلآت طابعة ، وآلآت عرض سينمائي ، وأجهزة صوتٍ تقليدية محدودة، ورفوف الكتب والمجلات.
وعندما تم إنجاز التوقيع بينهما ، الشاهر والسامرائي ، والشاهدان محاسب السفارة ، وأنا ، نهض فاضل الشاهر وسحب من خلف كرسيِّهِ جنطةَ سفرٍ سوداء ووضعها أمام ماجد السامرائي ، الذي فوجئ بالموقف، فسأل:
و ما هذه يا أبا فداء ؟
فرد فاضل الشاهر: هذه وصولات بكل ما خوّلتني الدولة ودوائرها بصرفه من أجور ومكافآت طيلة سِنيِّ عملي بالقاهرة!
رحمهم الله فاضل وماجد.
هذه الواقعة وواقعة سمير الشيخلي تؤكد أمانة رجال كانوا يديرون الدولة في تلك الفترة من تاريخ العراق المعاصر.
كان في العراق رجال يتلقَّوْن عروضاً ماليةً باهظةً خلال مفاوضاتهم مع الشركات الأجنبية لتوريدِ مكائنَ ومعداتٍ وسفنَ وطائراتٍ وبواخرَ وسياراتٍ وبضائعَ ، ويفاجئون مفاوضيهم بقبول العرض، وعند إنجاز المفاوضات وقبل التوقيع النهائيّ يطلب أولئك العراقيون بخصم ما عُرض عليهم من قيمة العقد!
وكانت الدولة العراقية تكافئ موظفيها بسياراتٍ ودرجاتٍ وظيفية على أمانتهم .
كنت آنذاك على إطلاع بواقعتين من تلك المفاوضات تم في إحداها تكريم اعضاء الوفد بسيارة مرسيدس لكلِّ عضوٍ في الوفد ، وفي الثانية بسيارتيْ مرسيدس!
وبعض أولئك الرجال لا يزالُ حياً .
وحتى لا يشكك البعض في أمانة المفاوضين العراقيين بالزعم ( أنهم كانوا يخافون من رجال المخابرات الأعضاء في وفد المفاوضات) ، أقول إنّ تلك الوقائع حصلت قبل سنينَ كثيرة من البدء بصيغة إضافة عناصر المخابرات للوفود الرسمية.
وختاماً هل يمكن لأحد أن يوضّح مدى أمانة مسؤولي حكومة العراق اليوم، لو أودعت لديه 15 مليون دولار نقداً نثرية، أو أمانة عضو وفد مفاوض تُعرض عليه ملايينُ الدولارات ؟
عن جريدة (برقية) الالكترونية