نازك الملائكة .. ذات يوم
صباح المندلاوي
مؤخرا ازيح الستار وفي شارع المتني – القشلة عن تمثال للشاعرة الرائدة نازك الملائكة وهي التي اصدرت اول ديوان شعري لها بعنوان “عاشقة الليل” واعقبتها بـ “شظايا ورماد” عام 1949 ثم “قرارة الموجة” عام 1957 و “شجر القمر” عام 1968 ودراسة نقدية بعنوان “قضايا الشعر المعاصر” عام 1962 فضلاً عن كتابيها “الادب والغزو الفكري” و “محاضرات في شعر علي محمود طه” والصادرين في عام 1965 لقد اعلنت تمردها على قيود الشعر العمودي وبشرت بالحداثة والتجديد وحملت راية الشعر الحر جنبا الى جنب السياب وعبد الوهاب البياتي.
لقد رسمت اناملها اول قصيدة بعنوان “الكوليرا” اثر سماعها من احدى الاذاعات العربية وبعد تفشي هذا المرض ،كيف ان الكوليرا قد حصدت المئات من الارواح في مصر الشقيقة.
كذلك كتب السياب في العام “1947” قصيدته المعنونة “هل كان حباً؟” التي اعتبرها البعض انها باكورة الشعر الحر في العراق.
لم تفض النقاشات والحوارات والسجالات الى تغليب نازك او السياب احدهما على الاخر في هذا المضمار.
صدرت العديد من الكتب والدراسات عن شعر الشاعرة وسيرتها الذاتية.. فلقد انجز الناقد عبد الجبار البصري كتابا بعنوان “نازك الملائكة .. الشعر والنظرية” عام 1971 وفي عام 1982 وبعد سنوات من التدريس فس جامعة الكويت تألفت لجنة من النقاد والباحثين لوضع كتاب عنها بعنوان “نازك الملائكة .. دراسات في الشعر والشاعرة” وكان كتابا فخما بلغت صفحاته التسعمائة وقد ظهر في اواسط الثمانينات من القرن الماضي.
حياة نازك
في عام 1994 وعن دار رياض الريس للكتب والنشر صدر كتاب بعنوان “صفحات من حياة نازك الملائكة” للكاتبة الراحلة حياة شرارة وفي هذا الكتاب نطالع الكثير من المعلومات التفصيلية والجديدة عن حياة الشاعرة ،فالكاتبة تلقي الضوء في مقدمتها كيف ان لقاءً تلفزيونيا مع الشاعرة اوحى لها ذات يوم بكتابة مقالة عنها بعنوان “تلك ايام خلت” وخصوصا ان زيارات عديدة كانت ما بين عائليتهما في الصغر تتم وروابط حميمة تشد بعضهما الى بعض، ومنذ تلك المقالة، ساورتها رغبة لوضع كتاب عنها .. لتجميع معلومات ومعطيات اخرى وتوسيع رقعة البحث، غير ان مشاغلها تجرفها عن البدء بمشروعها، وبعد اربعين عاما تهتدي الى رقم هاتفها مع معلومة انها لا تستقبل احدا بسبب من وضعها النفسي والصحي .. تنتابها الحيرة والقلق ماذا لو رفضت ان تلتقي بها؟!
الا يعني ان المشروع برمته ينتهي الى الفشل؟ تصارع مشاعرها .. تتردد ..تتجبجب .. تخشى ان تسير الامور بما لا تشتهي السفن.ومن جديد ومساء 22 آب عام 1989 يراودها الامل باهمية الاتصال بها. تتصل هاتفياً .. يظهر على التلفون – الخادم – تسأله: أهذا هو بيت الشاعرة نازك الملائكة؟!
يرد بالايجاب – حينها تسأل: أيمكنني ان اتكلم معها؟!
يطلب منها ان تنتظر .. لابد من مناداة الدكتور زوجها “عبد الهادي محبوبه” فتحييه اجمل تحية وتعرف بنفسها .. وتسأل: هل يمكن ان اتحدث معها؟!
يخبرها بأنه لا يسمع جيداً .. فثمة وشوشة في الهاتف.
ترفع صوتها عاليا ليسمع جيداً..وحينئذ يسألها: هل انت احدى قريباتها؟
توضح له قائلة: لا لست من الاقارب وانما تربطني بها علاقة قديمة واريد اجراء لقاء معها. يرد زوجها: لا يمكن ذلك .. انها ترفض وبشكل قاطع .. ان حالتها الصحية لا تساعد على ذلك ولا داعي للالحاح.. فهي لا ترى سوى افراد عائلتها.
ولكن لي معرفة قديمة بها
قلت لك انها لا تقابل احداً
وهنا تطلب منه ان يخبرها باسمها ان كان ذلك ممكناً. وحينما يعرف اسمها – حياة شرارة – يقول لها:
طيب انتظري
تنتظر ويطول الانتظار .. تشعر بأنها كسبت الجولة ويطل صوتها .. ومع هذا فاللقاء لا يتحقق اذ تطلب منها الشاعرة رقم هاتفها على امل الاتصال بها ... في هذه الاثناء تطلب من الشاعرة رقم هاتف اختها – احسان الملائكة – فيتم لها ذلك ، تنتظر هاتفا من الشاعرة .. يمض عام دون ان تتصل بها..
عندها تتصل الكاتبة بشقيقة الشاعرة “احسان” وتبين رغبتها بوضع كتاب عن الشاعرة فتبذل اقصى جهودها لمساعدتها ذات يوم تدبر لها لقاء مع نازك بعد الاستئذان منها .. فيتم اللقاء ويدور حديث عن الذكريات وكتابة الشعر .. اكثر من ساعتين والوقت يمضي واللقاء بينهما مفعما بالسرور والغبطة .. بعدها تنطلق لترتيب وتبويب ما لديها .. وليظهر الكتاب بما هو عليه ولدقة المعلومات الواردة فيه والموثقة بالايام والتواريخ بل واعتماد الكاتبة على فقرات قصيرة او طويلة من مذكراتها وسيرتها الذاتية، يكتسب الكتاب قيمة مهمة قياساً الى ما صدر عنها من كتب و مؤلفات.
تشكيل جمعية
نطالع في هذا الكتاب كيف ان نازك ولدت في العاشرة ليلا وفي الثالث والعشرين من آب عام 1923 وقد سميت بـ”نازك” من قبل ابيها صادق الملائكة تيمنا بأسم الثائرة السورية نازك العابد.
وعن لقب “الملائكة” تقول:
( ان جارهم عبد الباقي العمري هو الذي اطلق عليهم هذا اللقب لان اجدادها كانوا بهدؤهم شبيهين بالملائكة).
ومما نطالعه ايضا وبسبب نفورها من الزواج ان تبادر لتشكيل جمعية ضد الزواج وتضم اخواتها “احسان ونعمت” وديزي الامير. غير ان هذه الجمعية تتصدع لاحقا وذلك بزواج اختها – نعمت – والاخريات تباعاً.
نتعرف على طفولتها وصباها..عن الالعاب الشعبية التي تستهويها .. ولعها بالمطالعة والقراءة.. وما كانت تنشره على صفحات مجلتي “الصبح” و”فتاة العراق”. بل انها اولى الفتيات اللواتي سمع صوتها من اذاعة بغداد في 30 تموز 1940 حينما القت اول قصيدة لها من محطة الاذاعة وكانت صبيحة الشيخ داود اول مذيعة عراقية انذاك تقرأ ايضا.. كيف تقرض الشعر وامها “سلمى الملائكة” كانت شاعرة ولها ديوان بعنوان “انشودة المجد”.
كيف تعلمت من ابيها قواعد واصول النحو؟ وكيف كانت تشجع الحديث بالفصحى مع اخواتها، ومن يخطأ في العربية يدفع مبلغاً ضئيلاً يومذاك ويوضع في صندوق خصص لهذا الغرض. نقرأ ايضاً .. كيف انها دخلت معهد الفنون الجميلة – قسم الموسيقى – وصارت تعزف على العود بمهارة وتؤدي الاغاني المحببة الى قلبها وتسمع الموسيقى باستمرار ومرة اخرى تدخل معهد الفنون الجميلة – قسم المسرح وباشراف الاستاذ حقي الشلبي .. وتتابع الافلام السينمائية المشهورة ومنها “لمن تقرع الاجراس” لهمنغواي.
نقرأ لها اراء غريبة منها: ( اما التأنق ما اتفهمه .. وما اشد اذلاله لروح الانسان] اعتقادا منها ان الجمال ينبع من الروح والذهن الحر المرن. عام 1953 تفجع برحيل والدتها بعد اصابتها بمرض عضال .. ترافقها في السفر الى لندن لاجراء عملية جراحية لها.. ولاتقانها اللغة الانكليزية تبوح الام لها بمخاوفها وهواجسها من انها قد كتبت الكثير من القصائد عن فلسطين وضد الصهيونية فماذا لو صادف ان يكون الطبيب الذي يشرف على علاجها يهودياً..تخشى ان يقتلوها فلا ترجع الى الوطن.
ودون ان تدري تصدق نبؤتها، اذ يخبرها احد اصدقاء عائلتهم وهو فلسطيني ان الطبيب الذي اجرى العملية الجراحية لرأس والدتها .. تركها ساعة كاملة وذهب ليجري عملية اخرى في الردهة المجاورة، وان بوسعها ان تقاضي الطبيب وترفع الدعوى عليه. وقبل هذا الوقت تسافر في صيف عام 1950 الى امريكا اثر حصولها على زمالة دراسية بأسم مؤسسة روكفلر: اذ تقول عن دراستها في جامعة برينستون (قد اتيحت لي في هذه الفترة الدراسة على اساطين النقد الادبي في الولايات المتحدة الامريكية مثل ريتشرد بلاكوز، ديلمور شوارتز وكلهم اساتذة لهم مؤلفات معروفة في النقد الادبي كما عرفوا بابحاثهم في مجالات الجامعات الامريكية وسائر الصحف الادبية) .وعن زيارتها الى سوريا ينقل لنا الكاتب بأنها زارت بلودان في تموز عام 1974 ونظمت قصيدة عن القنيطره بعنوان “السفر في المرايا الدامية” وكانت المفاجأة الاجمل لها .. ان تلتقي مع المطرب المشهور محمد عبد الوهاب ويدور بينهما حديث طويل عن الشعر والموسيقى والغناء وليبدي المطرب عبد الوهاب اعجابه بما تحفظه من الاغاني مقرونا بالعزف .. فضلا عن ملاحظاتها الذكية في هذه الزيارة يتم استضافتها في امسية شعرية يحضرها شخصيات اجتماعية مرموقة من امثال وزير الاعلام السابق فوزي الكيالي والشاعر سليمان العيسى والدكتور عبد السلام العجيلي. تقرأ العديد من قصائدها اخر قصيدة تجود بها قريحتها بعنوان “دكان القرائين الصغيرة” وفيها (تسير الشاعرة في جو من الحلم في احد الاسواق الشرقية، تبحث عن قرأن صغير لتشتريه وتهديه الى حبيبها المسافر جوا .. كانت تسأل العابرين عن مكان الدكان الذي تباع فيه القرائين الصغيرة، وارشدها الى دكان اسمه “مندلي” وظلت تبحث عنه دون جدوى ولم تستطع تهتدي اليه ابداً ويسافر حبيبها دون ان تقدم القرأن هدية له .. حين انتهت نازك من تلاوة القصيدة حدثت مفاجأة جميلة لها، فما ان نزلت من خشبة المسرح ومشت على السلم حتى تقدم منها الشاعر احمد سليمان الاحمد – بدوي الجبل- ومد يده وقال لها : تفضلي .نظرت الى مافي يده فرأت قرانا صغيرا يقدمه لها .. شعرت بفرحة غامرة وهي تأخذه في يدها .. شكرته وقالت له:
ما اروع هذا .. لقد عثرت على دكان مندلي اخيرا ).في عام 1972 تسرق سيارتهم “تويوتا سوبر” اليابانية والتي جلبها معه زوجها من الكويت والتي تقدر ثمنها بمبلغ 150 ألف دينار اي ما يعادل نصف مليون دولار في حينه.ودون ان يتم العثور عليها..
في حزيران عام 1992 تبادر جامعة البصرة بمنحها شهادة الدكتوراه الفخرية غير انها تعتذر عن الحضور بسبب وضعها الصحي ولكونها عانت من غيبوبة طويلة.
يتوقف قلب الشاعرة نازك الملائكة عن الخفقان بتاريخ 20 حزيران 2007 وفي العاصمة المصرية القاهرة.