الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عن كتب العراقيين ومكتباتهم.. زمن الحصار والحرب

بواسطة azzaman

عن كتب العراقيين ومكتباتهم.. زمن الحصار والحرب

ضياء خضير

 

يثير فيّ موضوع «صناعة الكتاب» مجموعة من الذكريات الشخصية والعامة التي لا تخلو من ألمٍ وعاطفة لم أتخلص منهما قارئًا ومؤلفًا حتى الآن.

لأتحدث عن الكتب والمكتبة في مراحل مختلفة سابقة عشتها في بغداد وغير بغداد، ورأيت فيها كيف ذهبت كتبي ومكتبتي التي تركتها في بيتي مع الريح بعد أن احتله داعشيون وسكنوا فيه بعض الوقت في محلة العامرية ببغداد إثر الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، وكذلك كتبي الأخرى التي تركتها في أوقات أخرى مضطرا بعد مفارقتي لبيتي أو شقتي في حي (بن عكنون) في الجزائر العاصمة في السبعينات من القرن الماضي، والدائرة التاسعة عشرة بباريس في فرنسا عند نهاية دراستي في فرنسا عام 1987، والمدينة الرياضية في عمّان بعد إقامتنا المؤقتة فيها بين عامي 1999 -2001، ومدينة صحار في سلطنة عُمان التي تخليتُ فيها لدى انتهاء عقدي عام 2015 مع جامعتها بعد أربعة عشر عامًا من العمل فيها، عن أكثر من عشرين صندوقا من الكتب لبعض الأصدقاء والطلاب؛ ثم آخرها مكتبتي الصغيرة في جبيل اللبنانية التي تركتها في شقتي المغلقة هناك منذ خمس سنوات عند مجيئي إلى كندا عام 2018.

حياة مقلقة

لقد درستُ وعملت وأقمت في كل تلك الأماكن والبلدان التي ذكرت، والتي كانت فيها الكتب أنيسًا ورفيقا لا أستطيع تصور حياتي المتقلقلة بعيدًا عن الوطن دونها. إنها الهجرة والتنقل الدائم الذي رافق حياة كثير منا نحن العراقيين في السنوات الأخيرة وفرض على بعض من مثقفي البلد وأساتذته وفنانيه أن يرحلوا ويتركوا، بين ما يتركون، كتبهم ومكتباتهم، وما تتضمنه وتنطوي عليه، أحيانا، من وثائق ومخطوطات وهوامش وملاحظات تؤلف في مجموعها أنفاسا وذكريات وخلاصات حياة وتجارب، هي ربما أثمن ما يملكون..

وقد يكون العزاء والسلوى غير كافيين وحدهما لموت الكتب أو شعورنا بهذا الموت نتيجة نقل المكتبة أو اضطرارنا لمفارقتها وتركها، فلا يمكن تعويض الكتاب الذي تقتنيه وتضع ملاحظاتك عليه أو ترى إهداء صاحبه الذي لم يعد موجودا معك في هذه الحياة الدنيا، أحيانا. وربما بدا التخلي عن المكتبة أو تركها بسبب الموت حدثا عاديا رغم فداحته، خصوصا إذا لم يكن هناك في عائلة الكاتب من يحفظ المكتبة ويديم العلاقة مع الكتاب والكتابة وتراث صاحبهما، ولكن اضطرار الكاتب إلى التخلي عن بيته ومكتبته في حياته مضطرًا، هو الحدث الأكثر إيلاما وحزنا. فمكتباتنا صورة مجسدة لحياتنا أو مراحل محددة منها، وليس من السهل أن يرى الكاتب، صاحبُ المكتبة، حياته أو هذا الجزء أو ذاك منها ينهار، أو يختفي أمام عينيه.

أما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد كان أمرُ الكتب والمكتبات العراقية العامة أكثر إيلامًا وقسوة من وضع المكتبات الشخصية الخاصة، بعد قصف بعض هذه المكتبات بالطائرات ضمن ما قصف ودمر من مشاريع ومؤسسات، أو تخريبها وحرقها من قبل الدواعش والمشاغبين والمرتزقة الحاقدين أو الأميين والجهلة.ويمكننا هنا أن نستشهد بنموذجين من هذه المكتبات العريقة هما مكتبة جامعة الموصل المركزية في شمال العراق، ومكتبة مدينة البصرة المركزية العامة في جنوبه.فقد جرى حرق المكتبة المركزية التابعة لجامعة الموصل التي تأسست عام 1967، وأحرقت معها معظم المكتبات الفرعية التابعة لها، فضاعت مئات آلاف الكتب والأطروحات والمخطوطات النادرة.

والموصل التي عُرفت على مدى قرون بفنانيها وكتابها ومكتباتها الزاخرة بمؤلفات بلغات عدة، يحاول أبناؤها اليوم استعادة كتبها المنهوبة واستبدال تلك المحروقة من خلال حملات عديدة لإعادة ملء رفوف المكتبة المركزية التي خسرت جلّ مخطوطاتها ووثائقها النادرة.

وعلى مدى العقود الماضية، كانت جامعة الموصل مرجعا ثقافيا لآلاف الطلبة والباحثين العراقيين والعرب، غير أنه مع سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المدينة في يونيو/حزيران 2014، تغير حالُ المدينة وجامعتها العريقة، فضلا عن متاحف المدينة (نينوى) التي سرقت ودمّرت بصورة منهجية منظمة.

أما مكتبة البصرة العامة التي تأسست عام 1931، فقد كانت أكثرَ حظا حينما توفر على رعايتها بعض الموظفين الشرفاء الذين نقلوا معظم كتبها الثمينة ومخطوطاتها إلى بيوتهم. فبعد أن تحولت المكتبة إلى ما يشبه الثكنة العسكرية يشغلها محافظ البصرة خلال حرب 2003، طلبت مديرتها منه نقل الكتب، لكنه رفض الطلب. وخوفا من تعرض المكتبة للقصف اتفقت هذه المديرة التي شغلت وظيفتها مدة 33 عامًا، اتفقت سرا مع بعض الموظفين على نقل الكتب إلى منازلهم، عند دخول قوات الاحتلال إلى المدينة وتعرض المكتبة لسرقة الأثاث والأجهزة.

ولم يخطر في بال تلك الموظفة النجيبة في تلك اللحظات الحرجة غير الحفاظ على أكبر كمية من كتب المكتبة، فبادرت لنقل الكتب إلى المطعم المجاور قبل أن تنقلها إلى منزلها ومنازل بعض موظفيها، ساعدها في ذلك عمال ذلك المطعم، حتى تمكنت من حماية قرابة ثلاثين ألف عنوان من عناوين أهم الكتب والمخطوطات قبل أن تُحرَق المكتبة بعد وقت قليل بكل ما تبقى فيها …!

نكتفي بهذين المثالين، ولا نريد أن نذكر أمثلة أخرى كحرق المكتبة الوطنية الكبيرة ببغداد الذي أحرق قلوب كل العراقيين الذين يعرفون ما تحتوي هذه المكتبة من خزائن كتب وصحف ووثائق وأرشيف ومجلات، وحريق مكتبة المتحف العراقي ومكتبة الأوقاف في الموصل، ومكتبة متحف الموصل بمقتنياتها ومخطوطاتها النادرة، إضافة إلى نهب وتدمير مكتبات خاصة كثيرة لأكاديميين وعلماء عراقيين في العاصمة وأكثر من محافظة.

ذاكرة شخصية

وهكذا، فحكايات الكتب والمكتبات الشخصية والعامة تبقى مؤلمة وجارحة دائما، لأنها تتعلق بالذاكرة الشخصية والعامة، وبثقافة البلد وتاريخه والوثائق المسجلة عنه والمجسدة لتراثه.

وما جرى بعد الاحتلال للمتاحف العراقية بدءًا بالمتحف العراقي الكبير في بغداد من تخريب ونهب، كان أكثر فداحة وإيلامًا. وهو، بكل تفاصيله المأساوية المحزنة، دليل واضح على أن ما كان يستهدفه المحتلون وزبانيتهم التابعون لم يكن حاضرَ العراق وحده، وإنما شخص المثقف الشريف فيه وهويته وماضيه وتراثه القريب والبعيد، أيضًا.

لقد بدأنا بالحديث عن الكتب والمكتبات الشخصية، وهي حكايات يجرحني تذكرها وتذكر عشرات من الكتب والكتابات التي اقتنيتُها وكتبتُها وضاعت، ولم أعد قادرًا على العودة إليها.

من بينها ديوان شعر كتبتُه وانا في كلية التربية وبعد تخرجي منها، ورواية أخرج المصري فؤاد التهامي فلما روائيا في بغداد تحت عنوان (التجربة) استنادا إلى مخطوطة لم تطبع منها. ولكن المخطوطة ضاعت ولم يعد لها وجود. (والغريب أن فلم التجربة المستند إلى روايتي هذه ويحمل اسمها قد فاز عام 1978 بجائزة أفضل نص سينمائي مكتوب في مهرجان كارلو فيفاري بجكوسلوفاكيا السابقة). إضافة إلى ضياع المخطوطة الكبيرة لديوان الشاعر العباسي عبد الصمد بن الحسن المعروف بابن بابك، التي حصلت عليها من مكتبة جامعة طهران في السبعينات من القرن الماضي وعملت عليه دراستي للماجستير الخاصة بهذا الشاعر.

ولا بد أن نتذكر أيضا الطريقة التي كان فيها كثير من (المثقفين) العراقيين ايّام الحصار الجائر الذي استمر قرابة ثلاثة عشر عاما (1990- 2003) يضطرون فيها لبيع مكتباتهم بشارع المتنبي وغير شارع المتنبي ببغداد وبقية المحافظات بثمن بخس، دراهم معدودة، ليوفروا ثمنا لعلبة سكائر أو قنينة حليب لأطفالهم أو جزء من ثمن تذكرة سفر لم يكن من السهل آنئذ الحصول عليها.

والمؤلم أن عددا غير قليل من هؤلاء المثقفين كانوا يبيعون مع هذه الكتب المبادئ التي تعلموها وأخذوها من هذه الكتب لأنهم وجدوا أن القيم والمبادئ قد تغيرت وتبدلت مع تبدل الأخلاق والدينار العراقي الذي أصبح ورقة عادية لا قيمة كبيرة لها.

في حين استمر نهمُ مثقفين عراقيين آخرين من الشباب الجامعيين والشعراء وغيرهم وشغفهم بالقراءة والمتابعة لكل ما هو جديد من كتب قديمة وجديدة على ما هو عليه. فازدهرت، كما نتذكر جميعا، أيامَ الحصار وسنواته العجاف صناعةُ استنساخ الكتب وراجت، وبدت كما لو كانت الوسيلةَ الوحيدة الممكنة في حينها لتلبية حاجات سوق الكتاب والكتّاب والقارئين والطلاب الجامعيين وغير الجامعيين على السواء.

وكان بعضُ المثقفين العراقيين من صحفيين وشعراء وكتاب قصة ومشتغلين بالمسرح هم من يقومون بعملية الاستنساخ هذه، يدورون في المقاهي والتجمعات التي اعتاد الأدباء أن يكونوا موجودين فيها ببغداد والمحافظات، أو يفترشون الأرصفة في شارع المتنبي وغير شارع المتنبي لبيعها مع ما يباع ويُشترى من كتب وأثاث منزلي في تلك الأيام.

ولا يندر في هذا الشارع وجود نسخ من الكتب الإبداعية والنقدية العربية الموضوعة، والعالمية المترجمة في نفس الوقت الذي تظهر فيه بأمكنتها الأصلية دون فارق زمني يذكر، ودون مراعاة الحقوق الفكرية للمؤلفين والناشرين العرب والأجانب.

وليس من المستغرب أيضا أن يلجأ كثير من الكتاب الشباب إلى طبع مجموعاتهم الشعرية والقصصية بصورة جماعية أو فردية، وتوزيعها بهذه الطريقة أيضا، بل إن تلك كانت الوسيلةَ الوحيدة التي كانت كثير من الكتب الشعرية والنثرية العراقية قادرة أن ترى النور من خلالها. وأنت لا تعدم أن ترى بعضًا من المجموعات الشعرية الجديدة للشعراء الشباب مكتوبا بخط اليد ومستنسخا بعدد محدود لانعدام الوسائل الأخرى، وضيق ذات اليد لطبعها طباعة عادية.وهي فترة طويلة في حياة المثقفين العراقيين صار بعضهم يطلق عليها (حقبة الاستنساخ)، وبيع المكتبات الخاصة التي لجأ إليها عديد من المثقفين العراقيين مع اعتزازهم بكتبهم ومكتباتهم وحرصهم عليها.

وقد ذكرني ذلك بحكاية طريفة رواها الخطيب التبريزي عن كتاب اضطر أحد الأدباء البغداديين لبيعه مع حاجته إليه وتعلقه به.

حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب (الجمهرة) لابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً

وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي، وهي:

أنستُ بها عشرين حــولاً وبعتها

لقد طال وجــدي بعدها وحنيني

ومــا كــان ظني أنني سـأبيعهــا

ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعفٍ وافتقــارٍ وصبيـة

صغـارٍ عليهم تستهـلُ شؤونُي

فقلتُ ولـم أملك سوابق عبـرتي

مقالــةَ مكــوىّ الفــؤاد حزيــنٍ

وقد تخرج الحاجات يـا أم مالك

كــرائـم مـن رب بهـن ضنيـــنِ

فأرجع الشريف المرتضى رحمه الله النسخة إليه، وترك له الدنانير.


مشاهدات 120
الكاتب ضياء خضير
أضيف 2024/09/06 - 11:34 PM
آخر تحديث 2024/09/14 - 1:49 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 281 الشهر 5545 الكلي 9994167
الوقت الآن
السبت 2024/9/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير