هيرمان هيسه في الكريات الزجاجية.. البحث عن الذات

 

عصام البرام

 

 

يعد الروائي الألماني هيرمان هيسه (1877-1962) الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1946،  من بين أبرز الكتّاب في الأدب الألماني الحديث، التي تميّزت كتاباته بالعمق النفسي والتحليل الاجتماعي، ومن أبرز ما كتبه من روايات (الخبير من ساندر) التي نُشرت عام 1924 التي  تناولت حياة الشباب الأوروبي في القرن العشرين، وتأثير الحرب العالمية الأولى على الفرد والمجتمع وما نتج عنها من تأثيرات سلبية.

كذلك رواية (الموتى الأحياء) التي نُشرت عام 1931، وتناولت المشاكل الاجتماعية والسياسية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وركزت على تأثيرات البيروقراطية والفساد وما نتج عنه على المجتمع الالماني، في حين كتب روايته جبل سيساينغ عام 1927 التي تناول فيها شخصية هاري هالر الذي يعاني من تناقضاته الداخلية ويبحث عن الهُوية والمعنى في الحياة.

أما رواية (نزاع الروح) المنشورة في عام 1930، فهي  تروي قصة صداقة بين شخصيتين مختلفتين تمامًا في الطباع والرؤية للحياة، وتستكشف الرواية المواضيع المثيرة للجدل مثل الجمال والروحانية والشهوانية.

إلا إن قراءة رواية (الكريات الزجاجية) التي فازت بجائزة نوبل للأدب في عام 1946، هي أحدى أهم روائع الأدب الألماني الكلاسيكي، وتُعد هذه الرواية واحدة من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، التي تمتاز بأسلوبها الأدبي العميق والمعقد، وتتناول موضوعات فلسفية ونفسية وثقافية معقدة.

تدور أحداث الرواية في إطار خيالي يقع في مستقبل بعيد، حيث تعيش مجتمعات تحكمها الفلسفة والموسيقى، كما تناولت الرواية حياة شخصية البطل هاري، وهو شاب يتمتع بقدرات فائقة في لعبة تدعى "الكريات الزجاجية"، وهي لعبة تمثل تجسيدًا للمعرفة والحكمة.

لقد أعطى هيرمان هيسه هذه الرواية بعدة ملامح بارزة تجعلها عملاً أدبيًا فريدًا ومميزًا، ومن بين هذه الملامح، عمق الفلسفة والمعرفة وتشعبها، فالرواية فيها مواضيع فلسفية معقدة تغوص بالحكمة، والمعرفة، والتطور الإنساني وصراعاته، وهي تتحدث عن معنى الحياة والبحث عن الحقيقة، إذ  تبرز الرواية التكامل بين مختلف المجالات الفنية والعلمية، مما يعكس رؤية هيرمان هيسه الشاملة للثقافة والمعرفة الانسانية.

لقد سعى الكاتب الى تسمية الرواية بالكريات الزجاجية لرمزية اللعبة، فهذه اللعبة عند هيسه رمزًا للمعرفة والحكمة، وهي تمثل التوازن بين العقل والروح والجسد، كما يراها هو.

إن تتبع قراءة الرواية، هي رحلة تطور لشخصية البطل هاري،  والكاتب يسلط الضوء على تحولاته الفكرية والروحية وصراع الذات، حيث سعى بروايته الى تناول عمق التطور الشخصي للبطل، فضلاً الى استخدامه لغة وأسلوب أدبي متقن، فأسلوب الكاتب يتميز بالغنى والتعقيد، أضافة لأستخدامه لغة أدبية متقنة، تتناسب مع عمق المواضيع التي يتناولها، ودرجة الصراع الدراماتيكي داخل النص، كما يركزعلى تحليل الطبقات الاجتماعية، وتأثيرالصراعات فيما بينها وانعكاسها على الفرد والمجتمع.

 

الابعاد النفسية لشخصية البطل

 

إن أبرز ما يميز في هذه الرواية هي شخصية البطل الشاب هاري، إذ تتميز هذه  الشخصية بالعديد من الأبعاد النفسية وتعقيداتها، فترسم خطوط الاحداث للبطل عن شعوره بعدم الارتياح والقلق تجاه العالم من حوله وشعوره بالانعزالية، فهو دائم  البحث عن معنى للحياة وحيثياتها وعن اتصال إنساني حقيقي في عالم الوجود، كما يعاني  من صراعات داخلية عميقة، يتقاطع فيها بين رغبته في الانتماء والتقبل للواقع، وبين رفضه للمجتمع والقيم والعادات التي يمثلها، فالبطل في الرواية يعاني من حالة دائمة من التوتر والقلق، وأنه يشعر بالغربة والعزلة في كل ما يحيط من حوله، وهذا ينعكس بدوره على علاقاته مع الآخرين ويجعله يشعر بالعجز والإحباط المتكرر.

ثم ينتقل هيرمان هيسه الى ابراز دواخل وصراعات بطله وهو  يقوم بتحليل ونقد العديد من القيم والمفاهيم الاجتماعية التي يعتبرها مزيفة وغير ملائمة، والسعي الى الثورة في ذاته ومن ثم السعي الى تغيير الواقع الاجتماعي، فنحن هنا أمام  شخصية تتميز بالحساسية الشديدة والتعقيدات العاطفية، وهو دائم  الميل إلى التأثر بسرعة بما يجري خلال وجوده وعمله في المنظمة غير العلنية، ويظهر تذبذبات في مشاعره وسلوكه معها، فضلاًعن طريقة تعامله الحساس بما يحيطه، فالرواية تقدم البطل المحوري كشخصية تعاني من التشتت الذهني وعدم القدرة على التركيز، مما يجعله يبدو غير قادر على الاستقرار في أي مكان أو بيئة، وهو يظهر البطل في الرواية كشخصية انعزالية، يفضل الابتعاد عن العالم الخارجي والعيش في عوالمه الخاصة، وبنفس الوقت ينظر لتغيير الواقع الذي يصبو اليه، والتمرد عليه.

لقد أراد هيسه الى التعمق الفلسفي بشخصية الانسان من خلال ما رسمه لبطله، وهو يعبر عن ذاته الحقيقية التي تناولها في أغلب رواياته وعلى شخصيات أبطاله كمعادل موضوعي من خلال التعبير عما يجري في العالم من حروب وفساد.

 أن أغلب أبطال هيسه  يعبرون عن حاجتهم المستمرة للبحث عن هُويتهم الحقيقية ومكانهم من هذا العالم، وهو ما يدفعهم لاستكشاف مختلف السبل والطرق واتخاذ السبل للتحدي والتمرد.

لقد قدم الكاتب بطله في الكريات الزجاجية، أنه في رحلة مستمرة للبحث عن هُويته ومكانه الأمثل بين العالم، ويبدو أنه يتأرجح بين محاولة تحديد ذاته وبين الاستسلام للعواطف والظروف الخارجية.

فبطل هيرمان هيسه يعاني من صراع داخلي بين مختلف الأفكار والرغبات والتطلعات التي يحملها في داخله، كشخصية مشوشة ومشتتة، يشعر بالشك تجاه الآخرين وتجاه نفسه، مما يجعله يتردد في اتخاذ القرارات والتصرفات نحوها.

فهو يجسد في هذه الشخصية تجربة الإنسان الحديث في مواجهة التحديات النفسية والاجتماعية في عصر العولمة والتغيرات والتطورات السريعة، فضلاً عن الاكتشافات التي قادت الى بناء العالم ودماره من ناحية أخرى.

                                         تتميز كتاباته بعدة عناصر

إن أبرز ما يميز هيرمان هيسه في كتاباته، تناوله مواضيع عميقة تتعلق بالبحث عن الذات والروحانية والتحول الشخصي، كما يُظهر ذلك في أعماله مثل (سيدارثا)  و (دميان والزارع) كما قدم هيسه في كتاباته تفاعلًا مع الفلسفة والديانات المختلفة، ويستكشف معاني الحياة والوجود من خلال شخصياته وأحداث قصصه.

إن كتاباته تحمل لغة رقيقة وأنيقة، تُشكل صوراً جميلة في ذهن القارئ، وتعبر عن المشاعر والأفكار بطريقة عميقة وجذابة، فضلاً عن  تقديمه اهتمامًا بالطبيعة والجمال الروحي في كتاباته، فهو يستخدم الطبيعة كرمز ومصدر للإلهام والتأمل والابداع الانساني، ليعكس عذابات الانسان مع الوجود.

ففي أغلب كتابات هيرمان هيسه يتناول مواضيع الرحلة الداخلية والتطور الشخصي، وكيفية تأثير التجارب والتحديات في تشكيل الشخصية وإثراء الحياة الروحية، كما  تتميز بعمقها الروحي وفلسفتها العميقة، إضافة إلى لغتها الجميلة وقدرتها على تشكيل رؤى ملهمة عن الحياة والإنسانية، وستظل رواية (الكريات الزجاجية) عملًا أدبيًا استثنائيًا تتناول مواضيع فلسفية وثقافية معقدة بأسلوب أدبي عميق وملهم، وتستحق القراءة والتأمل لمن يبحث عن تجربة أدبية غنية ومثيرة للفكر.