مشاهدات من إسطنبول (6)
قصر طوب قابي .. تحفة فنية بين أكتاف البسفور وخليجه الذهبي
أشهر القصور والمعالم الآثارية والتأريخية في سراي بورنو
رعد أبو كلل الطائي
قصر طوب قابي هو أكبر قصور مدينة إسطنبول الأوربية ومركز إقامة سلاطين الدولة العثمانية لأربعة قرون من عام 1465 - 1865م وكلمتي (طوب قابي) تعني باللغة العربية (الباب العالي) وتم بناؤه في نقطة تشرف على مضيق البسفور وخليج القرن الذهبية وعلى قطعة بيزنطة في منطقة سراي بورنو وعلى أعلى ربوة في إسطنبول الآثارية قريبة من البحر ويطل ويشرف على القرن الذهبي وبحر مرمرة فضلاً على اطلالته من عدة جهات ونقاط على مضيق البسفور في حين تحيط بالقصر الأسوار السلطانية ومدخله الرئيسي البوابة الإمبراطورية في الجانب المقابل لمسجد آيا صوفيا ويشغل القصر مساحة قدرها 700 ألف متر مربع .
مكونات القصر
يتألف القصر من أربعة فناءات رئيسية وعدد من المباني من مساكن ومطابخ ومساجد ومستشفى وكان يقيم فيه ما يقارب أربعة آلاف شخصٍ وبدأ بناء القصر في 1459 م بناءً على امر من السلطان محمد خان الثاني فاتح القسطنطينية وأطلق عليه في بداية الأمر (يني سراي) أي القصر الجديد لكي يميز عن مقر الإقامة السابق .
وقد جرى توسيع القصر على مر العصور وتجديده بعد زلزال 1509م وحريق 1665م وبدأ القصر يفقد اهميته تدريجياً بعد القرن السابع عشر الميلادي وفضّل السلاطين العثمانيين البقاء في القصور الجديدة وفي عام 1856م أمر السلطان عبد المجيد الأول ببناء قصر دولمة باهشته وهو أول قصر يُبنى على النمط المعماري الأوربي وتم الإنتقال إليه مع بقاء بعض الإدارات في قصر طوب قابي مثل وزارة الخزانة والمكتبة وعقب سقوط الدولة العثمانية في عام 1923م حولت الحكومة العثمانية القصر إلى متحف وانتقلت إدارة القصر إلى وزارة الثقافة والسياحة التركية .
فناءات القصر
ويتكون القصر من أربعة فناءات :
الفناء الأول والمعروف بأسم الفناء الانكشاري وساحة العرض وهو الأكبر والأكثر اتساعاً بين الفناءات ومحاط باسوار عالية ومزين ببرجين مثمنان الشكل وهو بمثابة ساحة خارجية يصطف فيه الانكشاريون ومسؤولو البلاط
وكان يسمح فقط للسلطان بالدخول اليه من البوابة الإمبراطورية على ظهر الخيل .
حريم السلطان
الفناء الثاني والمعروف بساحة ديفان ووصل إلى شكله النهائي في عام 1529م في عهد السلطان سليمان الأول ويحيط به مستشفى القصر والمخبز والأحياء الانكشارية والاسطبلات والحريم السلطاني والديوان من شماله والمطابخ من جنوبيه ويتميز هذا الفناء بوجود بوابة السعادة في نهايته وتعثر في هذا الفناء على العديد من القطع الآثارية من العصرين الروماني والبيزنطي معروضة أمام المطابخ الإمبراطورية وكان السلطان العثماني يتخذ في هذا الفناء لعقد الاجتماعات والتجمعات أثناء جلوسه على عرشه المطلي بالذهب كما يقع في الركن الشمالي الغربي من هذا الفناء المجلس الإمبراطوري
وللمجلس مداخل متعددة وسقفه خشبي مصبوغ باللونين الأخضر والأبيض ومزين بالذهب ومثبت على اعمدة الشرفة المصنوعة من الرخام والحجر السماقي .
اما المطابخ في هذا الفناء فقد تم تشييدها في القرن الخامس عشر الميلادي وتم توسيعها لاحقاً في عهد السلطان سليمان القانوني وتنقسم المطابخ إلى عشرة مبانٍ مقببة وكانت تخدم ما يقارب 4000 فرد ويعمل فيها اكثر من 800 فرد .
اما الفضاء الثالث والذي يسمى بالقصر الداخلي فيقع خلف بوابة السعادة وهو حديقة غناء رائعة تحيط بها مبانٍ مثل (الغرفة الخاصة والخزانة والحريم ومكتبة السلطان احمد الثالث) ويحيط بالفناء مقرات الأغوات وهم الصبية الذين كانوا يخدمون السلطان وقام بتصاميم الفناء السلطان محمد الثاني وتم تزيين البلاط باللون الأزرق والفيروزي والأبيض ومُزين ومفروش بالسجاد والوسائد الثمينة وتقع غرفة العرش الرئيسية داخل غرفة الحضور .
ويُعد جناح السلطان الفاتح من أقدم مباني القصر ويضم مكتبة اندرون ذات الطراز الكلاسيكي والمعروفة كذلك بأسم مكتبة السلطان احمد الثالث وهي مثالاً للهندسة المعمارية العثمانية في القرن الثامن عشر .الفناء الرابع هو الملاذ الأعمق للسلاطين وعوائلهم ويتكون من أجنحة واكشاك وحدائق ومدرجات وكان في الأصل جزءاً من الفناء الثالث وتم تحديده مؤخراً كهيكل منفصل لتمييزه بشكل أفضل ويحتوي الفناء الرابع على كشك صيفي مخصص لختان الأمراء الشباب وعلى كشك بغداد والذي يقع على يمين النافورة وتم تشييده بعد عام 1938م لإحياء ذكرى محلة مراد الرابع في بغداد وهو مشابه لكشك يريفان في المظهر وتغطي الكشك وتُزينه الألواح الرخامية والروافد على طراز المماليك المصريين .الفناء الخامس وهو كذلك يُعرف جزء منه بحدائق القصر الخارجية ويجمع باحات القصر لأنه يواجه مياه مضيق البسفور وتم في حينها بناء ثلاثة أجنحة لم يبقى منها سوى الجناح المبلط .
متحف القصر
ويُعد المتحف بما يحتويه من مقتنيات وخاصة الإسلامية منها واحداً من اهم متاحف إسطنبول ويضم قسم الأمانات المقدسة والذي يحتوي مقتنيات تُنسب إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم منها (سيفه وعصاته وضرسه وجزء من شعر لحيته وآثار قدميه وبردته وبردة ابنته السيدة فاطمة) ومقتنيات لأنبياء أخرين وصحابة وخلفاء راشدين وهي محفوظة من عدة قرون وانتقلت هذه الآثار إلى الدولة العثمانية عقِب ضم السلطان سليم الأول مصر عام ١٥١٧م واحضاره
تلك الأمانات إلى إسطنبول مقر الخلافة العثمانية إذ اُحتفظت في غرفة خاصة بالمتحف كما تشمل الأمانات المقدسة قطعاً نادرة جُلبت من مكة المكرمة والمدينة المنورة ووضعت جميعها في غرفة يُتلى فيها القرآن الكريم على مدار اليوم دون إنقطاع بجانب الغرفة الشريفة وخصصت الغرفة الخاصة بشكل كامل للأمانات المقدسة
كما يضم المتحف عدة اجنحة تحتوي على مجموعة ثمينة من المجوهرات الثمينة والكنوز العثمانية والخزف والأثواب والأسلحة وصور السلاطين العثمانيين والمخطوطات ٠
جولة تفقدية
بما إن مكان القصر في منطقة سراي بورنو فهو قريب عن مكان اقامتي انطلقت سيراً على الأقدام متوجهاً إلى قصر طوب قابي وبعد مسير حوالي نصف ساعة لاح امامي منظراً ابهرني بناءٌ على ربوة عالية مطل من عدة نقاط على مضيق البسفور الفاصل الجغرافي الطبيعي بين قارتي اسيا واوربا وبين اكتاف القرن الذهبي وبحر مرمرة مشكلاً لوحة رائعة الجمال محاطةً بروضات غناء خضراء زاهية واشجار باسقة وشامخة وبدأت بالدخول من البوابة الرئيسية وهي المدخل الرئيسي والتي يطلق عليها الباب الهمايوني (باب السلطة) والتي من خلالها ندخل إلى ساحة القصر وتوجد على هذا الباب كتابة يرجع تأريخها إلى عام ١٤٧٨م وهي تتألف من أربعة أسطر كما نجد على أعلى واجهة الباب لوحة كتب عليها عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله وهذه الباب محاطة بدعاميتين عاليتين تشبهان المنارة وساحة القصر تضم ابنية الخدمات والتي يطلق عليها ساحة الدار الأولى والثانية مخصصة بالأبنية المتعلقة بالمؤسسات الداخلية وهذا الباب (الهمايوني) مرتبط بباب يطلق عليه باب السلام يمر من خلالها السلاطين في مواكب في المناسبات الرسمية للدولة العثمانية
وتتوزع في القصر حجرات السلطان ومقر الحكم ومركز إدارة الإمبراطورية العثمانية وجناح والدة السلطان وجناح لكل زوجة من زوجات السلطان واجنحة لحريم السلطان وللحراس والخدم والشيء الملفت للنظر شاهدنا مدرسة للمتميزين لتنشئة السياسيين والعسكريين من ذوي المواهب في الدولة العثمانية ٠
ولاح امامنا مناظر هي الأخرى خلابة وهي مجموعة واسعة من الحدائق موزعة بانتظام في باحات وفناءات القصر اهمها حدائق السلطان المعلقة وحديقة جولهانه التي تقع على تلة في الجهة الخلفية للقصر وتتميز بتنوع اشجارها ونباتاتها وازهارها بعدها اتجهنا إلى قسم حرملك القصر وهو مخصص لإقامة زوجة السلطان ووالدته واخوته وجواريه ويضم ٣٠٠ غرفة وعدة حمامات إذ في ذلك الحين لم يكن مسموح لنساء الحرملك الخروج إلى الأسواق وكانت هناك ساحة كبيرة في قسم الحرملك يقام بها الأسواق في حين كانت هناك غرفة للسلطان مزينة بالزخارف الإسلامية المذهلة مطلة على حديقة كان السلطان يتناول طعامه فيها ٠
وبما إن القصر وابنيته واجنحته ومساحاته كبيرة جداً فالزائر لا يستطيع مشاهدة كل مرافقه في زيارة واحدة لأنك تحتاج إلى وقت وجهد.
وبعد ان حول القصر إلى متحف عام ١٩٢٤م اصبح يحظى باهتمام سياحي كبير وأخذ يحقق زيارات كبيرة من الدول العربية والإسلامية والعالم كافة نظراً لما يحتويه من آثار ومقتنيات قيمة وهامة ويتدفق عليه يومياً الآلاف من الزوار وشاهدنا خلال زيارتنا للقصر مجاميع كبيرة من السواح منتظمين في طوابير ومعهم مرشدين سياحيين ومترجمين اتراك وهم يتجولون في مرافق واجنحة القصر وغالباً ما تنتهي جولاتهم بالتقاط الصور التذكارية للأماكن المميزة في القصر >
بقيَّ أن نقول :
إن منظمة اليونسكو صنفت القصر على إنه ضمن المعالم المنتمية للمناطق التأريخية في إسطنبول وفي عام ١٩٨٥م أصبح موقعاً للتراث العالمي ووصف على
إنه من أفضل الأمثلة على التنوع الثقافي في الدولة العثمانية .