السعلوة....ورواة الخرافة بين تصديق الرواية وفساد العقول.
غالب الحبكي
بين صفحات وسطور الماضي، تعج بطون الكتب بالأكاذيب والخرافات والزيف والتحريف الذي ما أنزل الله به من سلطان. لذا فلا نلوم "الفيسبوك" اليوم أن أصبح أداة تجهيل أو تنوير؛ فهو لا يصنع الثقافة سوى أنه أداة نقل للمعلومة السريعة، ولا يقوم بعملية البناء والتحصين الفكري.
لهذا، يجب علينا أن نقرأ. بل يجب أن لا نشعر بالملل من قراءة الكتب، ونموت وبين أيدينا الكتاب شاهداً، فهو مصدر العلم والمعرفة نحَصّن به عقولنا من الجهل، وأما الخرافة في الرواية والخبر والناقل والمنقول دون علم وتحقق، فهؤلاء يساهمون في تسطيح المجتمع وتجهيله. أستطيع القول في هؤلاء إنهم الذين في قلوبهم "زيغ"، ويتبعون ابتغاء الفتنة وما تشابه عليهم منه من القول، فأضطربوا وانحرفوا عن مبدأ ومنهج البحث والتحقيق والدراية والرواية وحقيقة الراوي، وصحة الرواية والخبر وما بعد الخبر. هؤلاء يتبعون الزيغ.
والزيغ في اللغة اصطلاحاً: و هو زَيْغُ الحاكِمِ: مَيْلُهُ عَنِ الحَقِّ، اِنْحِرافُهُ. وقد جاء في محكم التنزيل في سورة "آل عمران" آية (7): [فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ]. وقال [الجاحظ]: إِيَّاكَ مِنْ زَيْغِ الْهَوَى، وهو: بِهِ شَكٌّ.
المسعودي أنموذجاً
نقرأ في كتابه (أخبار الزمان)، حين ذكر أصناف "السعالي" [وهي أنثى الغول] قال: وهناك صنف من السعالي يتصورون في صور النساء الحسان ويتزوجن برجال الإنس. وكما حُكي عن رجل يُـقال له (سعد بن جبير) ، أنه تزوج امرأة منهن وهو لا يعلم ما هي، فأقامت عنده وولدت عنده أولاد، وكانت معه ليلة على سطح يشرف على الجبانة، وإذا بصوت في أقصى الجبانة [نساء يتألمن، فطربت]. وقالت لزوجها: أما ترى نيران السعالي؟ شأنك وبينك، استوصِ بهم خيراً، فطارت ولم تعد إليه.
بل ويَذهب المسعودي ويقول: وقِيل إنـها حين تَظهر بالرجل الخالي في الصحراء أو الخراب، فتأخذه بيده فتراقصه حتى يتحير ويسقط، فتمص دمه.
انفراد المسعودي ونقله لهكذا خرافات لا صحة لها لا يعني أننا نريد تكذيب الرجل أو اتهامه بالكذب، أو نقل واختلاق الروايات والقصص التي لا صحة لها، بل لو أن أحدنا كان في زمان المسعودي، لذهب بنقل تلك الأحاديث والقصص والروايات، وذلك بسبب الجو المشحون بالخرافة والقصص المجهولة المليئة بالغرابة والغموض التي لا حقيقة لها.
والحقيقة أن الشيخ المسعودي هو مؤرخ وعالم جليل القدر، وهو راوي محترم، ولذلك لم يذهب الرجل لينسب الكلام الى أحد، أو الى نفسه، أو الى الأولياء والعلماء أو الرجال المعروفين في زمانه أو زمان مضى، لهذا نجد الرجل حين صنف في كتابه "أخبار الزمان" ذكر في صدر الخبر كلمة (قِيل). وهنا، لا نخدش الرجل بما ذكره، وإنما ندفع الشبهات عنه، وهو أيضاً لا يخرج عن قاعدة الجرح والتعديل، وإن لم يذكر الرواة في حديثه، فإن كان هو الراوي العاقل، فكيف به مصدقاً كل التصديق؟ وكيف به إذن أوردها ولم ينكرها؟ بل ذهب الى ذكر الكثير من الروايات والقصص الغريبة الغامضة، كذلك معاصري زمانه في الكتب "الحشوية". وأغلب تلك الكتب في ذلك الزمان كانت محشوة بالخرافات التي لا صحة ولا حقيقة لها.
إذن، ما هي المسؤولية التي تقع على عاتق المثقف اليوم؟ ونحن نشهد أزمة عالمية مخيفة تلتف على هذا الكوكب وتخنقه وتقتل من فيه؟ لذا علينا أن لا نأخذ بكل ما نجد وكل ما يقع بين أيدينا من رواية وخبر وحديث وارد ذكر فيه أمراً جللاً أو عظائم الأمور والفتن والحروب والأمراض وأوبئة قاتلة. لتكون مادة دسمة والموضوع لا يزال قيد النفي والإثبات التاريخي، فضلاً عن سقامة وسقوط النص ومجهولية الرواة.