الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين تشرق الروح..  حكاية إمرأة تسير بين الضوء والظل


حين تشرق الروح..  حكاية إمرأة تسير بين الضوء والظل

لهيب عبدالخالق

 

في فضاء الرواية العربية المعاصرة، تبرز سردية سمر السامرائي كصوت نسائي فريد ينبض بالصدق والعمق الإنساني. في روايتها «حين تشرق الروح»  التي صدرت عن دار الحكمة للطباعة والنشر في لندن، تنسج االكاتبة حكاية امرأة تنطلق من أحضان الوطن الدافئ إلى برّ الغربة البارد، حيث يتداخل الحلم بالواقع، وتتصارع أشواق الماضي مع آمال المستقبل. عبر لغة شفافة تصقل المشاعر بالألوان والروائح، تستعرض الرواية رحلة بطلتها نهلة، التي تحفر دربها بصبر وعزيمة بين أزقة الغربة، متحدية قيود الأسرة، وصراعات الذات، لتصنع من الحنين بذورًا للحرية، ومن الألم بداية لإشراقة روح لا تنطفئ.هذا المقال يستكشف عمق التجربة الإنسانية في “حين تشرق الروح”، ويحلل أسلوب السامرائي في التعبير عن تعقيدات الغربة، والحنين، والبحث عن الذات، مقدمًا رؤية نقدية تغوص في ثنايا النص لتضيء الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تبنى عليها الرواية، وما تعنيه من قضايا إنسانية راهنة.ولا يمكن تناول رواية “حين تشرق الروح” التي امتدت على مساحة 271 صفحة من القطع الكبير، دون الإشارة إلى المسار الشخصي والكتابي الذي خاضته الكاتبة سمر السامرائي، فهي كاتبة عراقية مقيمة في كندا، وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين. بدأت تجربتها الروائية مع عملها الأول “لآلئ عمري” عام 2012، وهي سردية تكشف عن وعي مبكر بقلق الذاكرة، إذ ولدت من رحم معاناتها مع مرض التصلب اللويحي المتعدد، الذي أصابها في سنوات سابقة.كان ذلك المرض، وما تركه من أثر على الجسد والوعي، باعثًا لتفجّر أسلوب سردي خاص، محمّل بثقل الذكريات وأسئلة الوجود. كتبت من الداخل، من داخل التجربة لا من خارجها، محاولةً أن تضع الآخرين وجهًا لوجه أمام رحلة الألم والمقاومة، وكيف يمكن للكلمات أن تنتصر على تهديد العدم.ولم تكتفِ بتجربتها الذاتية، بل انتقلت إلى نقل تجارب الآخرين ممن أصيبوا بالمرض ذاته، في كتابيها “ظلال الغاردينيا” عام 2014،  و”بوح الخزامى” عام 2017، وقدّمت فيهما سِيَرًا إنسانية لمرضى لم يكن لهم صوت بطريقة أدبية، ورفعت صرختهم في وجه المؤسسات الطبية التي عاملتهم كفئران تجارب لا كأرواح تبحث عن الشفاء، فكان صوتها الواضح:

تشكيل اللغة

نحن لسنا فئران تجارب.” وهي صرخة أطلقتها في أحد المؤتمرات الطبية في دبي، حين دُعيت كنموذج نسوي واجه المرض بقوة، ووهب تجربته لمساعدة الآخرين.في كندا، المغترب الأقصى، عادت السامرائي إلى شتاتها الإبداعي والروحي، لتعيد تشكيل لغتها وهويتها الأدبية، فكان أن كتبت “حين تشرق الروح”، الرواية التي نضجت على نار التجربة الطويلة، وعلى مرآة الألم الذي لم يُهزم، بل تحوّل إلى نور داخلي.هذه الرواية ليست مجرد سرد؛ بل هي نوع من الخلاص، من الانبعاث، من تقاطع الحلم بالواقع، والذاكرة بالتحوّل، والأسى بالأمل.

تفتتح سمر السامرائي في روايتها نوافذ رحبة على تجربة إنسانية مفعمة بالتناقضات بين ماضٍ موغل في الدفء والذكريات، ومستقبل هشّ مبني على الصراع والبحث عن الذات. تروي الرواية رحلة نهلة، المرأة التي تصارع أقدارها من خلال نضال لا ينقطع بين الوطن الغائب، والأسرة المرهقة، والغربة التي تمثل أفقاً جديداً لكنه بارد ومليء بالتحديات.

تميزت الرواية بأسلوب سردي ذكي يجمع بين السلاسة والعمق، حيث توظف السامرائي لغة شفافة تعكس الحواس والمشاعر بكثافة متجددة، وتستحضر الألوان والروائح، فتنتقل بالقارئ بين دفء بغداد، ورياح دبي الحارقة، وبرودة تورنتو البيضاء. فالصورة ليست فقط وصفًا، بل هي نسيج يُنسج من تفاصيل دقيقة: خصلات الشعر المنسدلة، عطر القهوة الممزوج بصمت الشرفة، خيوط العباءات التي تخيطها البطلة، وكل ذلك يعكس رحلة نهلة الداخلية، بين الحنين والرفض، بين الضعف والقوة.تُبدع الرواية في التوقف عند لحظات تحوّل مفصلية في حياة نهلة، كاستيقاظها المبكر في يومها الأول في الجامعة، حيث ترتجف اليدان ليست من صوت المنبه، بل من نبض الحلم المؤجل، ومن وقوفها أمام المرآة التي تعكس سنوات من التضحيات. هذا المشهد ليس مجرد سرد، بل هو توقيع درامي يعبر عن “الزمن الذي لا يُغتال” رغم كل ما مرّ به الجسد والروح. كما لا تغفل الرواية عن إبراز تفاصيل ذات حمولة نفسية واجتماعية معقدة، كعلاقة نهلة بإخوتها الذين يرمون عليها أحكامًا مخفية، وتركيزها على أن قرار الهجرة والدراسة في كندا لم يكن حرية مطلقة، بل خطوة اضطرارية نحو الانعتاق من قيود الأسرة والمجتمع.

عقدة الرواية

تطرح الرواية عقدة إنسانية مركبة تتمثل في الصراع الدائم بين الرغبة في الانتماء والبحث عن الذات. فالحنين إلى الوطن لا يغيب، لكنه يصبح في الوقت نفسه سجناً يحبس نهلة في ذاكرة الألم والغياب. معاناة الفقد، خصوصًا لفقدان الحبيب الذي استُشهد، ترافقها في صمت كظل لا يفارقها، لترسم صورة امرأة تناضل لتعيد بناء كيانها من تحت أنقاض الذكريات.تجربة نهلة في الإمارات تعكس محاولة التكيف مع بيئة لا تتسع لحلمها، وفيها يشكل التنمر العائلي وضغط التقاليد إطارًا يختنق فيه صوتها الداخلي، فتأتي كندا، و”بلاد الثلج”، رمز الانفصال والتحرر، حيث تبدأ رحلة بناء الذات، والخياطة، والعباءات التي تحمل توقيعها، ليست فقط ملابس، بل هي حكايات من حرية وصبر وجرأة.وهي ليست مجرد قصة فردية، بل هي مرآة تعكس قضايا أوسع: غربة المرأة في بلاد الغربة، عبء المسؤولية العائلية، البحث عن الكرامة والاعتراف، وحكاية النضال ضد الفقد والخذلان. تتحدث عن هويات متعددة تتصارع بين تداخلات الماضي والحاضر، بين الانتماءات الجغرافية والوجدانية، وتحمل سؤال الحرية التي لا تُمنح بل تُنتزع.تجمع الرواية بين بلاغة التعبير وجمالية اللغة، بين شفافية المشاعر وقسوة الواقع، بين الصراعات الشخصية والتحولات الاجتماعية. هي نص ينبض بحياة امرأة عادية تحمل أحلاماً غير عادية، وتبدأ الرحلة حيث يلتقي الحلم بالثبات، حيث تصبح الخياطة ليس فقط مهارة بل فن حياة، والجامعة ليست مجرد مكان، بل حديقة تزهر فيها بذور الأمل بعد سنوات من الشتاء الطويل.»حين تشرق الروح” ليست مجرد سرد لتجربة حياة؛ إنها رحلة عميقة في زوايا النفس البشرية، حيث تتصارع الذاكرة مع الحاضر، ويتجلّى الألم عبر أمل لا ينطفئ. تشرق الروح في لحظات التحدي، حين تتحول التجارب المريرة إلى بذور نبتت في تربة الصبر والإصرار، وتنمو على شرفات الغربة، حيث تبني البطلة عالمها الخاص من خيوط الحلم وصبر الأيام.هنا، لا تكون الغربة مجرد مكان بارد، بل فضاء تنبض فيه الحياة بألوانها، روائحها، وألحانها؛ حياة تُكتشف من جديد حين تختار أن تخرج من ظلال الماضي، وتشرق من جديد في فضاء الحرية، حيث تتكامل قصة الإنسان مع قصة الوطن، فتُشرق الروح رغم الألم، رغم الفقد، رغم كل العواصف.هذه الرواية هي شهادة على أن الروح قادرة أن تشرق في أصعب اللحظات، وأن الإنسان، مهما ثقل عليه الماضي، يمكنه أن يعيد بناء ذاته، ويصنع من صمته لغة، ومن حزنه حياة جديدة.

 


مشاهدات 40
الكاتب لهيب عبدالخالق
أضيف 2025/07/05 - 12:58 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 4:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 114 الشهر 2377 الكلي 11155989
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير