الطير والسر
نور البابلي
طيرٌ بعينيكَ يمضي النهارُ،
يا أيُّها البعيدُ، أينَ المسيرُ؟
أنتَ المسافرُ في دمي دائمًا،
وأنا هنا أحملُك سرًّا على الليلْ الطويلْ.
إلى أينَ تمضي؟ إلى أيِّ نبعٍ
إلى أيِّ سرٍّ تفتحُ جناحيكَ الآنْ
وأنا هنا، أقيمُ بصحراءِ شوقي،
أعصرُ أيّامي قطرةً قطرةً،
وأنتظرُ نداءً، تنهيدةً، رمادَ حلمْ.
قلْ لهُ: إنّي ما زلتُ أمشي على الصمتْ،
أحملُ في جيوبي فتاتَ الوقتْ،
أتوكّأُ على ظلّي كيتيمٍ للمعنى،
ضائعٌ بين أول حرفٍ وآخرْ.
هل تعرفُ معنى أنْ تكون عاشقًا
أن تذوب في الحرفِ كالماءِ
وتذوب في الحلمِ كالدمعْ
أن تخلعَ جلدكَ
وتسكُن في قصيدةٍلا تنتهي أبداً،
تسمع اللهَ في صوتهِ،
وترى الطريقَ إليهْ أقصرُ من نفسكْ
إنّي أريدهُ حياةً كاملةً،
لا نصفَ ظلٍّ، ولا كسرةَ فرحْ،
أريدهُ قمراً يسكنني، لا قنديلَ عابرْ،
أريدهُ أن يكون بدايتي ونهايتي،
حلمي الأوّل، ومنفايَ الأخيرْ.
خذْني على جناحيكَ،
علّمني الطيرانْ،
كيف أترك الأرضَ كأنّي أخلعُ ثوبًا قديمًا
وأرتدي السماءْ،
خذني إليهْ،
فإنّي تعبت من السؤالْ،
تعبت من مرايا الليلْ،
تعبت من أن أرى وجهي غريبًا عني،
وصوتي غريبًا عن صمتي،
وروحي يتيمةً تبحث عن وطنْ.
إن مررتَ على نافذتهِ، صفّق بجناحكْ،
واكتب على زجاجها اسمي،
فقد يظن أنّي متُّ في الغيابْ،
وأنّي صرتُ سحابةً تلاشت في المدى،
لكنّي هنا ما زلتُ أزهر من دمعي،
وأضيء من ندائي.
أخبره أنّي كلما صلّيت، هبطَ اسمهُ في قلبي،
وكلما بكيت، تفتّحت أبوابُ المعنى،
وأنّي ما عدت أرى فرقًا بين حبٍّ يقودني إليه،
وبين صلاةٍ تحملني إلى اللهْ.
أنا لا أريدهُ حبيبًا فقط،
أنا أريدهُ مرآتي الكبرى،
طريقي إلى نفسي،
وصوتَ الحقيقةِ في داخلي،
أريدهُ أفقًا أعلّق عليه أيامي،
وكتابًا أقرأه كي أفهم سرّي وسرَّهُ معًا.
قل له: إنّي ما عدت أحتمل طول الليلْ،
ولا خواء النهارْ، ولا ضياع العمرْ،
إنّي أعيش على وعدٍ واحدْ،
وعد أن يعود،
أن يفتح ذراعيه لروحي المتعبة،
وأن أذوب فيه كما يذوب الملحُ في البحرْ،
كما يذوب الفجرُ في وجه النهارْ.
خذني إلى سرهِ الأبعد،
خذني إلى ما وراء الكلامْ،
إلى الحلمِ الأول،
إلى البداية التي لا تنتهي،
إلى الضوء الذي يعلّمنا أنّنا كنّا معًا قبل أن نولدْ،
وسنكون معًا بعد أن يفنى كلُّ شيءْ.
أنا لم أعُد أفرّق بين حبٍّ يُنقذني،
وحبٍّ يُهلكني، فكلاهما وجهُ اللهْ،
لم أعُد أفرّق بين دمعة حنينْ،
وصرخة صلاةْ، فكلاهما يصلان إلى البابْ.
إلى متى سأبقى هنا
إلى متى سأحمل نفسي كمنفى صغيرْ
خذني إليهْ،
قبل أن ينهار قلبي كجدارٍ مهجورْ،
خذني إليهْ،
قبل أن يضيع اسمي في صمت الريحْ.
خذني إليهْ،
فإنّي ما عدت أنا،
إنّي صرت ظلًا له، إنّي صرت نداءً
يتردّد بين عينيه والعدمْ،
إنّي صرت سفرًا من شوقْ،
ودمعًا من نورْ، وغيمةً تبحث عن مطرْ.
طيرٌ يسافر له،
صدى روحي، صلاتي الأخيرة،
إن لم تأخذني إليهْ فخذني إلى اللهْ،
فإنّي أعلم أنّ الطريقَ إليهْ
هو ذات الطريق إلى اللهْ