الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حوار المثقفين بين التنوير والتجهيل


حوار المثقفين بين التنوير والتجهيل

صباح ياسين فرحان

 

المجتمع أمانة في أعناق الجميع، وبناؤه السليم يقوم على أسس رصينة ومبادئ واضحة في التخاطب والحوار. فالخطاب الواعي يمثل الركيزة الأساسية لأي نهضة فكرية أو حضارية حقيقية. وما يُعرض عبر وسائل الإعلام المختلفة – المرئية، المسموعة، والرقمية – يترك بصمة عميقة على عقول الأفراد، خاصة فئة الشباب والأطفال، الذين قد يظنون أن كل ما يُبث هو حقيقة مطلقة، صادر عن أشخاص يتحلون بالثقة والثقافة والحرص على أمانة الكلمة، سواء كانت كلمة صادقة أم نبيلة.

ولكن، إذا أمعنا النظر في الواقع، نجد فجوة كبيرة بين هذه الصورة المثالية والمشهد الإعلامي والسياسي والديني السائد. كثير من القادة السياسيين يركزون أكثر على إرضاء حلفائهم السياسيين أو تحقيق مكاسب انتخابية، دون الالتفات إلى نتائج تصريحاتهم وتأثيرها السلبي على المجتمع. ونفس الأمر ينطبق على بعض رجال الدين والمشاهد الإعلامية التي يطلون منها، حيث يغيب أحيانًا الحس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الجمهور.

كمثال عملي، كثيرًا ما نشاهد في البرامج الحوارية التلفزيونية تراجعًا في مستوى النقاش، فتتحول إلى منابر للصراخ وتبادل الاتهامات بدلًا من مناقشة موضوعية تبني فكر المجتمع وترسخ القيم. وفي مناسبات عدة، يستخدم المتحدثون ألفاظًا غير لائقة، حتى حين تُطرح قضايا اجتماعية أو دينية، مما يعزز مناخ الانفعال ويضعف قدرة المشاهدين على التحليل والتفكير المستقل.

هذه الظاهرة لا تقتصر على الإعلام فقط، بل تتغلغل في بعض المؤسسات التعليمية، حيث لا يُعطى التعليم المنهجي لمهارات الحوار والتخاطب أهميته الكافية. وهذا يقودنا إلى ضرورة تطوير مناهج دراسية متخصصة تُعلّم الطلبة، منذ مراحل التعليم الأساسية وحتى التعليم العالي، أسس الحوار الهادئ، وكيفية التعبير عن الرأي بطريقة محترمة وبناءة. فعلى سبيل المثال، يمكن إدخال وحدات تعليمية تتناول مهارات الاستماع الفعال، التمييز بين الرأي والحقيقة، وأدوات التفكير النقدي، ما يعزز من وعي الأجيال القادمة ويحصنهم من الانزلاق في فخ التجهيل.

إنّ التعليم المنهجي لمهارات الحوار لا يقل أهمية عن تدريس العلوم أو الرياضيات، فهو يربّي جيلًا قادرًا على التفاعل بشكل حضاري مع قضايا مجتمعه، ويبني جسور التفاهم بدلاً من توسيع الفجوات والصراعات. ولعل من الأمثلة الملهمة في هذا المجال ما تفعله بعض الدول التي أدمجت هذه المهارات في برامجها التعليمية، مما أسهم في خلق أجيال متزنة فكريًا واجتماعيًا.

لا ننسى أن جمهور هذه الحوارات هم أبناؤنا، وأن ما تقدمه وسائل الإعلام ومنابر الخطاب يشكل وعينا ووعي أجيال المستقبل. المعلم، الطبيب، الإعلامي، وقائد الرأي، جميعهم مربون بأشكال مختلفة، وأصواتهم تحمل تأثيرًا واسعًا في تشكيل الوعي الجمعي. ومن ثم، تفرض المسؤولية أن يكونوا على قدر الثقة التي يمنحها لهم الجمهور. للأسف، هناك من يظهر على الشاشات فيترك انطباعًا أنه كان من الأفضل له ألا يتبوأ هذا المنبر أبدًا.

في الختام، إن الارتقاء بمستوى الحوار الإعلامي والتربوي ليس ترفًا أو خيارًا، بل ضرورة حتمية لبناء مجتمع واعٍ، قادر على التمييز بين التنوير والتجهيل، وقادر على حماية نفسه من الانزلاق في فوضى الخطاب وابتذال الكلمة

 


مشاهدات 142
الكاتب صباح ياسين فرحان
أضيف 2025/08/22 - 11:57 PM
آخر تحديث 2025/08/23 - 8:14 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 222 الشهر 16314 الكلي 11411400
الوقت الآن
السبت 2025/8/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير