ما بعد الانتخابات البرلمانية.. المشهد المعقد لتشكيل الحكومة العراقية
راجي العوادي
بعد ان اجريت الانتخابات وظهرت نتائجها ( كتلة الاعمار والتنمية 46 نائبا , دولة القانون 28 نائبا , صادقون 28 نائبا , قوى الدولة الوطنية 18 نائبا , بدر 20 نائبا )
وأن الأحزاب الشيعية مجتمعة نالت خمسة ملايين صوت ، أي أكثر من ضعف ما حصلت عليه في انتخابات عام 2021 نحو مليوني صوت فقط , كما يلاحظ ان كتلة الإعمار والتنمية بزعامة محمد شياع السوداني، كتلة برلمانية كبيرة ، لكنها بعيدة عن الأغلبية ، وأن الوصول إلى الكتلة الأكبر لن يكون سريعاً بسبب التباينات بين القوى السياسية الرئيسية وأن مفاوضات اختيار رئيس الوزراء القادم ستكون الأكثر تعقيدا ما يتيح مساحات تفاوض وتحالفات بين القوائم المتنافسة في الفوز , فبات من الضروري اجراء التحالفات السياسية لتشكيل الكتلة الاكبر في مجلس النواب ,
فالإطار التنسيقي بين خيارين , التجديد للسوداني أو استئناف الانقسامات الشيعية, ولا ينكر أن المنافسة الشرسة تبقى بين السوداني والمالكي ،
لا سيما ان قوى الإطار التنسيقي مجتمعة لديها أكثر من 130 مقعدا، وبالتالي هم (الكتلة الأكبر) التي ستقدم نفسها للكتل البرلمانية الأخرى(الديمقراطي الكردستاني 26 مقعدا , الاتحاد الوطني الكردستاني 17 مقعدا , حزب تقدم 33 مقعدا ) لغرض التحالف , لكن التجربة السابقة، بعد 2003، أثبتت أن العامل الحاسم ليس عدد المقاعد فقط، بل مستوى التوافق بين الكتل وبين كتل المكوّن نفسه لحسم الخلافات التقليدية بين الكتل ذات التوجهات الاخرى، خصوصاً تلك التي تتباين رؤيتها حول الملفات المهمة، قانون هيئة الحشد الشعبي وقوانين النفط والغاز والمحكمة الاتحادية ، والعلاقة مع الإقليم.
سنعود مرة اخرى لتشكيل التحالفات والائتلافات على غرار ما مضى في السابق , في ظل مخاوف من تعقّد المشهد السياسي الذي سيواجه صعوبات بسبب استمرار الخلافات الداخلية والتجاذبات الإقليمية .
أن هذا التضاد بين الإطار التنسيقي وائتلاف السوداني سيضع الأمور أمام مسارين، أما أن يذهب الإطار للتفاهم مع حزب "تقدم" والحزب "الديمقراطي الكردستاني" كونهما أكثر الفائزين من بين المكونات الأخرى، أو يعطي المجال للسوداني ليقوم بهذا الشيء , وقد تحصل تسوية سياسية لسحب السوداني إلى داخل الإطار التنسيقي، لكن يبقى شرطه أن يكون هو المتصدر لتولي منصب رئاسة الوزراء لولاية ثانية، وهذا الأمر يواجه بمقاطعة واسعة من صقور الإطار, لذلك ستبقى هذه المشكلة قائمة لحين ظهور مديات التسوية التي تحصل في الجهة الشيعية، وبالتالي تتم التسوية مع الأكراد أيضا الذين لديهم مقاعد جيدة فهم بيضة القبان في التحالفات السياسية، وستكون لهم شروط مهمة جدا، لكن هذه المشكلات قد تعيد السوداني إلى الدوامة التي خاضها السيد الصدر قبل أربع سنوات حينما استطاع جمع أكبر تحالف برلماني، لكنه لم يستطع أن يمرر استحقاق تشكيل الحكومة
وهناك مشكلة متوقعة في الطرف الاخر , قد يسعي البارزاني إلى جمع القوى السنية الفائزة وتشكيل تحالف سني بمعزل عن الحلبوسي الذي يختلف معه، وهذا السيناريو وارد جدا، إضافة إلى احتمال بروز مفهوم «الثلث المعطّل» مجدداً وسيكون المشهد "أكثر تعقيداً" خاصة في ظل عدم التزام التحالفات والائتلافات السابقة بالاتفاقات المبرمة بينها والتي نتج عنها تشكيل الحكومات الماضية, فاستخدام هذا المفهوم , قد يؤدي إلى إطالة أمد المفاوضات حول تشكيل الحكومة؛ ما يعني بقاء الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني في وضع تصريف الأعمال، وهو ما لا تفضّله بعض قوى الإطار التنسيقي.
إن الحكومة القادمة ستولد , ولكن ولادة صعبة وعسيرة ، بسبب طبيعة الصراعات التي تجري بين القوى السياسية ، وانعدام البوصلة الهادية لصناع القرار للعمل بما يحقق الصالح العام للشعب , ولن ترى الولادة النور بسرعة , وقد تستغرق وقتا في حال تشكيلها لا يقل عن 4- 6 أشهر بعد الانتخابات , واذا تشكلت فسوف تتشكل في بيئة إقليمية ودولية ملتهبة تؤثر في سياساتها العامة ، وفي موازين القوة بين شخصياتها القيادية ومكوناتها السياسية ، وستمارس عليها ضغوط غير نمطية من قبل الاستقطابان الإقليمية والدولية (الخصمان امريكا وايران) وستكون الحكومة مثقلة بالتحديات والمشاكل الموروثة من حكومات ما قبلها على مستوى الاستقرار الأمني السياسي ، ومستوى الخدمات والبنية التحتية ، ومستوى السياسة الاقتصادية ، ومستوى البنية الاجتماعية ، ومستوى العلاقات الدولية والإقليمية ، لذا يجب أن تكون حكومــة ذات معايير قيادية استثنائيــة لتنجح في معالجــة وتخطي هذه التحديات , وبناء على هذه المعطيات الصعبة ، يمكن أن يتأرجح تشكيل الحكومة القادمة الى عدة سيناريوهات هما:
(سيناريو حكومة الشراكة) أن الحسابات الأولية تظهر أن قوى «الإطار التنسيقي» مجتمعة قد تتمكن من «تجميع الكتلة الأكبر» من حيث العدد متفوقة على السوداني ، اذا وافقت المحكمة الاتحادية على اعتبار الكتلة الاكبر , هي من تتشكل بعد نتائج الانتخابات وليس قبلها
لكن الأخير وبسبب كونه صاحب أكبر عدد المقاعد لوحده ، وكونه مَرضياً عنه أميركياً، أضف إلى ذلك أن بعض قوى «الإطار التنسيقي» ليس لديها «فيتو» عليه بل لديها خلافات معه يمكن تسويتها عبر التفاوض ومنحها ما تريد من مناصب وامتيازات في الحكومة المقبلة في حال شكلها السوداني,
لكن الطريق امام السوداني صعب للغاية في الفوز بالدورة الثانية، فهو يملك 46 مقعداً في البرلمان، وهو بحاجة الى 166 صوتاً من البرلمان, وحتى الرضا الامريكي عنه مشروط بان يكون ضد الفصائل المسلحة التي مجموع نوابها قي الاطار اكثر من نواب السوداني .
ان أي الخيارين يحصل سيؤدي الى قنوات التفاوض مع الكتل الكردية والكتل العربية السنية ، لتشكيل حكومة ائتلافية ، تعيد إنتاج حكومة الشراكة الوطنية مثل ما شكلت الحكومات السابقة ، وسنكون امام حكومة ضعيفة غير مستقرة ، فتستمر الخلافات والصراعات بين الكتل ، وتبقى كثير من الملفات والقوانين معلقة في ظل تردي الواقع الأمني والخدمي والبنيوي للدولة وتصاعد مستوى الفساد في الحكم والإدارة ، وربما سيكون هذا السيناريو هو الأقرب إلى التحقق , لان تجارب الحكومات السابقة كانت وفق هذا السيناريو, لكون أن هذه الانتخابات لم تنتج وجوهًا جديدة، بل كرّست هيمنة القوى التقليدية بسبب قانون الانتخابات المعدل والإنفاق الضخم للأحزاب الكبرى , فقد نجح النظام في العراق وعجز عن التغيير.
(سيناريو حكومة اغلبية ) يقوم هذا السيناريو على احتمالية قيام إحدى الكتلتين , «الإعمار والتنمية » او مجموع الكتل الشيعية الاربع «الإطار التنسيقي» على تشكيل الحكومة دون الحاجة إلى إجراء صفقات تقوم على المحاصصة مع بقية الكتل ، وتكون حكومة متجانسة ومتماسكة وتعمل كفريق واحد من اجل مصلحة الشعب وتطبيق برنامجها الانتخابي المعلن ، فيما يأخذ بقية خصومها موقع المعارضة في البرلمان , وهذا السيناريو الذي تبناه السيد مقتدى الصدر وعارضه الثلث المعطل , مما اختار السيد الصدر خيار ترك العملية السياسية برمتها من اجل هذا السيناريو.
ان من ميزات هذا الخيار ستكون الحكومة والمعارضة تعمل معا لهدف واحد هو المصلحة العامة , لكن على الرغم من ايجابيات هذا السيناريو إلا أن المعطيات في الساحة السياسية والمؤشرات الأولية لا تشجع عليه , ولا تشير إلى إمكانية تحققه ، إذن هذا السيناريو مستبعد حصوله ، بدليل رفضه سابقا من قبل نفس السياسيين وبعض البرلمانين الحالين.
(سيناريو حكومة الانقاذ الوطني) يعتمد هذا السيناريو في حالة فشل الكتل السياسية المتنافسة في عدم التوصل إلى احدى الصيغتين لتشكيل الحكومة القادمة , وعدم حصول أي كتلة سياسية على أغلبية مؤثرة, فيكون الحل الوحيد أمام الكتل السياسية هو تشكيل حكومة إنقاذ وطني بإطار زمني محدد ، تحل البرلمان وتشرف على انتخابات برلمانية جديدة بهدف تغيير خريطة التوازنات السياسية من خلال أشراك الشعب والمرجعيات الدينية ، والمنظمات المدنية ، والقوى الإقليمية والدولية المؤثرة , وهذا السيناريو مبعد تنفذه ولا نرغب فيه لأنه قد يقود الى الفوضى .
إن «التكهن بالسيناريوهات المقبلة يبدو صعباً حتى الآن، لكن مع ذلك يمكن القول إن رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني لا يزال هو الأكثر ترجيحاً وإذا تمكن من إقناع بعض أطراف (الإطار التنسيقي) الشيعي فسيصار إلى تكليفه ؛ لأن لا فيتو دولياً على السوداني بعكس أوضاع منافسين آخرين يمكن أن يكونوا مقبولين من الخارج لكن عليهم اعتراضات كبيرة من بعض قوى الداخل وبالعكس.
الدور الامريكي والايراني في تشكيل الحكومة العراقية
من المعلوم أن طهران وواشنطن ظلتا تتقاسمان النفوذ والتأثير في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2005-2021 ، أما الآن فلقد تغيرت الأمور كثيراً, والسؤال المطروح , هل لا تزال ايران تتمتع بالفاعلية نفسها التي مكَّنتها من لعب أدوار حاسمة في جميع الحكومات التي تشكلت خلال الدورات الانتخابية الخمس الماضية، أم أنها سيتراجع دورها هذه المرة ؟! ومع أن بعض الاتجاهات لا تستبعد بقاء الدور الفاعل الإيراني، تميل اتجاهات أخرى إلى ترجيح تراجع تلك الفاعلية لصالح «امريكا» والدور الذي ستلعبه واشنطن هذه المرة في مسارات تشكيل الحكومة واختيار الكابينة الوزارية المقبلة , فنحن دولة محتلة ولسنا دولة حرة , والا لماذا دونالد ترمب يعين لنا (مارك سافايا) مبعوثاً خاصاً له في العراق ، حيث زعمت صحيفة «جمهوري إسلامي» أن سافايا أبلغ المسؤولين العراقيين بأن واشنطن ستقرر شكل الحكومة المقبلة، واختيار الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والبرلمان) إلى جانب حقائب الداخلية والدفاع والمالية والنفط، إضافةً إلى رئيس البنك المركزي, ولذلك فإن من المرجح بقوة أن تكون الحكومة الجديدة التي ستتشكل بعد الانتخابات، أميركية بامتياز، والمبعوث الخاص الذي عيّنه ترمب سيدير هذا الملف بشكل مباشر, وستكون اولى مهماتها بمنع اي مكاسب مالية أو اقتصادية لإيران أو شركائها كتعويض عن الالتزام بالحظر الأمريكي .
في الختام، العراق يدخل مرحلة حاسمة من المفاوضات السياسية، ويعتمد نجاح تشكيل الحكومة على القدرة على التوصل إلى اتفاق مع الكرد والسنة وإدارة التوترات داخل البيت الشيعي, اضافة الى تأثير الاطراف الاقليمية والدولة.
*اكاديمي وكاتب عراقي مستقل
Raji_ali_1961@yahoo.co.uk