كانت أنفاسهُ اللاهثة تسابق الوقت؛ لم يبق أمام صديق الغجري غير نصف ساعة لحضور ذلك الموعد المريب، قفز إلى حانة “جنْديان ” الكائنة في زقاق قريب من ساحة الميدان، كرع على عجلٍ بطحةً من العرق وترك المكان لحضور ذلك اللقاء المخيف مع سكرتير ابن الرئيس عباس الجنابي في تلفزيون الشباب. كان بوضع نفسي متدهور يدع الكافر يشفق على حاله، وقبل الدخول إلى استعلامات الإذاعة والتلفزيون في الصالحية صادف الشاعر سعد جاسم قرب مقهى أبي ناطق، ليضع رأسه على كتفهِ وداهمتهُ نوبة بكاء جارفة، استفهم منه عن سبب البكاء وقد استبدَّ به القلق هو الآخر، فأخبرهُ بما ينتظره بعد دقائق من لقاءٍ خطيرٍ لا يعرف أين سيكون مصيره بعده؛ ثم طلب منهُ بإلحاح:
- إذا ما حدث لي أي مكروه؛ لا تتردَّد من إخبار المعارضة العراقية؛ أقسمْ لي أنك ستفعل ذلك.
- بشرفي سأخبر المعارضة إذا ما حدث لك أي سوء؛ سأنتظر هنا لمدة ساعة؛ وإذا طال غيابك سأتصرَّف.
حمل صديق الغجري قدميه بتثاقل إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، ليخبر موظف الاستعلامات عن اسمه، فأجابه بسرعة:
- بوجهك إلى تلفزيون الشباب؛ الأستاذ عباس الجنابي ينتظرك.
تذكر صديق الغجري دخوله إلى هذا المبنى لأول مرة؛ عندما حضر لاستلام جائزة عن قصيدته التي فازت في مسابقة أعلنت عنها الإذاعة والتلفزيون خلال الحرب مع إيران؛ لقد أرسل القصيدة من جبهة الشيب وكانت فرحته لا توصف حين شاهد اسمه بقائمة الفائزين من خلال شاشة التلفاز. لكنَّ حضوره هذه المرة ينذر بعواقب وخيمة؛ وجد صعوبة بالاستدلال إلى المكان حتى أشار أحدهم إلى يافطة مكتوب عليها تلفزيون الشباب؛ ليدخل رواقاً ضيقاً على جانبيه غرف متوالية بعضها كانت أبوابها مفتوحة وأخرى مغلقة، فجأة ظهر شخص لا يعرفه من أحد الغرف وصاح مهلهلاً:
- من ضيفنا اليوم؛ الشاعر الصعلوك يا أهلا ًوسهلاً.
صافحه هذا الشخص بحرارة ومحبة عالية وسمع منه كلام مديح على قصائده التي كان يقرأها في الصحف، لقد شجَّعهُ استقبال هذا المُعجب اللافت على الإفصاح عمَّا يتلظَّى في صدره:
- أنا في ورطة الآن؛ وسكرتير الأستاذ استدعاني بشأنها.
لبث الشخص صامتاً للحظات ثم قال بقلق واضح:
- أتمنى لك السلامة.
واختفى عن ناظريه؛ فيما لبث صديق الغجري يفكر بلقاء عباس الجنابي، فهي المرة الأولى التي سيراه فيها وجها لوجه، طرق الباب بوجلٍ فسمع صوتاً مبحوحاً:
- أدخل..
حين ولج الغرفة ارتطمتْ عيناهُ بجوقة من الشعراء الشعبيين يتوسطهم الجنابي وقد احتضن آلة العود وأصابعه تداعب أوتارها برفق، رفع رأسه نحو القادم ويبدو أنه عرفه؛ ليفتح فمه مصطنعاً الغضب:
- حضرتك تريد أنْ تصبح متمرِّداً برؤوسنا؛ من تظن نفسك؟
- من أين أجيء بالتمرد والجوع يفتك بأمعائي؟ أنا إنسان مسكين.
وبصوت أبح يحمل شجناً غامضاً قال:
- تتحدَّى الأستاذ؛ وتقول مسكيناً.
اهتزَّ جسده رعباً؛ كأنَّ نبض قلبهُ سيخمد فجأة، لكنَّ سرعة البداهة التي يمتلكها أعانتهُ فأجاب:
- لستُ أنا إلاَّ منزلة بين منزلتين.
استأنس الجنابي لكلام صديق الغجري فسألهُ برفق هذه المرَّة:
- أتحسبُ نفسك من المعتزلة؟
ردَّ وقد استقرَّتْ نبضات قلبه:
- لستُ مؤمناً ولستُ كافراً.
تبسَّم الجنابي برغم الحنق الذي مازال يطفو على ملامح وجهه وقال بحرصٍ:
- أفكارك الغريبة ستقودك إلى الهاوية.
استنجدَ بصديقٍ للجنابي هاتفاً:
- أطلبُ الأمان من روح الشاعر صاحب الشاهر.
حين سمع الجنابي بهذا الاسم تغيَّرتْ قسمات وجهه؛ كأنَّ غمامة حزن داهمتهُ، واتَّسعت عيناهُ، ترك آلة العود جانباً ثم استدار نحو ضيوفه بانكسار وأمرهم بالانصراف. لم يبق في المكان غيرهما، هنا طلب الجنابي منه الجلوس؛ فتجرَّأَ صديق الغجري بعد جلوسه ليستلَّ سيجارة لفٍّ من جيبهِ عازماً تدخينها؛ وإذا بالجنابي يرمي بعلبة سجائر الروثمان إلى حضن الغجري قائلاً:
- دعكَ من سجائر اللف.
أشعل صديق الغجري سيجارة روثمان؛ فيما عاد الجنابي يسألهُ:
- من أين تعرف صاحب الشاهر؟
- إنه ابن مدينتي وأستاذي.
- لقد اهتزَّ بدني عندما نطقتَ باسمه؛ إنه رفيق عمري، كُنَّا معاً في إعدادية مدينتك المسائية؛ ورثيته بقصيدة طويلة بعد رحيله المفجع في حادث سيارة؛ وديوانه الوحيد “أيها الوطن الشاعري” أعود لقراءة قصائده بين حين وآخر.
لبث صديق الغجري صامتاً؛ يكاد لا يصدق السكينة التي هبطت على كيانه، ليباغته الجنابي بسؤال:
- هل تعرف أشقياء مدينتك القدماء؟
- أجل أعرفهم، عمار أسَوْد، قاسم بهيَّه، علي تقي، قاسم بن حلومه، علي جكري.
- علي جكري كان صديقي؛ هل تعرف صاحب كماز؟
- هو جارنا؛ ويمتلك محلَّاً للمخلَّلات في باب بغداد.
- كنتُ أمضي ساعات لتدخين الحشيشة معه هناك.
كأنَّ الحديث مع صديق الغجري قد استأنس لهُ الجنابي وتركهُ في راحة قصوى؛ فأخبرهُ بوضوح:
- كان القرار هو إيداعكَ في معتقل الرضوانية؛ ولكن اختلف الأمر الآن؛ أنا حاضر لما تطلبه مني.
- سلامتك.
- لا؛ أطلب أي شيء مني.
- أتمنى دخول نادي الأدباء؛ كرد اعتبار لي.
رفع سماعة الهاتف وقال:
- اطلبوا لي اتحاد الادباء.
لحظات وبدأ يتحدث، كان على الطرف الآخر القاص وارد بدر السالم:
- سيأتي لكم الشاعر الصعلوك؛ اعطوه قارورة من الجِنْ مع وجبة عشاء من اللحم المشوي.
- لقد صدر قرار بمنعه من دخول النادي لمدة سنتين.
- الأستاذ صفح عنهُ.
- والقرار الذي صدر من المكتب التنفيذي؟
- ارفعوا عقوبة المنع؛ هذه أوامر الأستاذ.
أغلقَ الهاتف سكرتير ابن الرئيس؛ فيما نهض صديق الغجري ولثم خدّ الجنابي قائلاً بلهفة:
- سيبقى موقفك هذا في ذاكرتي ما دمت أتنفس الهواء.
بزغت ابتسامة على وجه الجنابي ومحبَّة مضيئة تلمع في عينيه وقال:
- لكن لا تشعلها من جديد أرجوك؛ أنت شاعر مهم؛ آه لو تعلم بذلك.
ثم أردف:
- ستصل بسيارتي إلى نادي الأدباء.
انصرف صديق الغجري عن المكان مذهولاً وهو لا يصدق ما جرى.