الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عن كره الضاد


عن كره الضاد

 

علي حجارة

 

      تتكون اللغة الصينية من 50,000 رمزٍ، وفي بعض القواميس الخاصة يتم الإشارة إلى أن هذا الرقم أعلى بكثير، وفي المجمل وبحسب أغلب المصادر التي تختص بهذه اللغة يحتاج الشخص الصيني المتعلم إلى معرفة نحو 8,000 رمزٍ، بينما يكفي 2,000 إلى 3,000 رمزٍ لفهم النصوص اليومية مثل الصحف، وبالنسبة إلى لغة تعتمد الرموز في تقديم فحوى نصوصها بدل الأحرف، ولاتستخدم صيغ الجمع أو التأنيث والتذكير، وتعتمد في تحول معنى كلماتها عند النطق إلى تنغيم من أربعة أشكال، مع إضافات مستمرة تواكب التطور الاجتماعي في الصين، فمن الممكن أن تتفاجأ بأنها اللغة الثانية انتشارًا على مستوى العالم بعد الإنجليزية، كما أنها اللغة  التي اختارتها دول عدة في الوقت الراهن كي تستقر ضمن المنهج الدراسي الذي تعتمده في تعليم أبنائها، نذكر على سبيل المثال لا الحصر السعودية ومصر وإيران، فضلًا عن معاهد مختصة تنتشر في أغلب دول العالم لتدريسها، ولن نزيد القول على ما هو معروف بأن خلف هذه اللغة شريحة بشرية تتجاوز المليار شخص وثقافة غائرة في القدم حتى فجر التاريخ، وقوة اقتصادية تقف خلف دفتها شركات وأسواق تتجاوز في تأثيرها الحدود الثقافية والسياسية .. أسوق هذه المقدمة متسائلًا وأنا أستذكر ما يحل بلغتنا الأم، هل سمعتم بأن الصينيين يحاولون التقليل من شأن لغتهم ؟، هل يعدونها مصدر تخلفٍ ما ؟ هل يحاولون ضمن مؤسساتهم الأكاديمية و الاقتصادية استبدالها باللغة الإنجليزية لأنهم يعدونها ثقلًا يعوق تواصلهم مع باقي الأقوام؟ .. أيحصل مع المـــاندرين ( وهو اسم اللغة الصينية )، مع ما يحصل مع لغتنا العربية، بل أتعاني مثل ما تعاني لغتنا من هذه الهجمة الذكية ؟ ...

" كاد الغرب أن يسقطنا ولكننا استيقضنا " هذه المقولة للمفكر الصيني وانغ هواي، تبدو إجابة غير مباشرة للتساؤلات السابقة، نعم لقد أدرك الصينيون ما الذي يعنيه أن يستهدف الآخر هويتك من أجل إنجاح مشروعه التوسعي ( أو التجاري علــــى أقل تقدير )، وعليه كانت اللغة معيارًا يُحرّم التلاعب به أو المساس بجوهره، لأنها ليست أداة تواصل فحسب، بل هي مادة أثيرية تجمع في نسيجها الذاكرة الجمعية، والخطاب القومي، والفكر التداولي لأمة ما، وهي أيضًا العنصر الذي يقع تحت رصد الآخر المتوسع محاولًا إسقاطه بهدف زعزعة كل ما سبق، ولأننا ( ربما ) لم نفرق بين الكرم المعقول و بين العطاء غير المشروط، فاتحين الأبواب على مصراعيها، فقد استغل الآخر كل ما يُمكن استغلاله كي يُهشم نظرتنا إلى أداة تواصلنا وبوتقة موروثنا، مرة عبر المد الثقافي الذي ينتهجه بشكل مدروس، ومرة عبر الهيكلة الاجتماعية المعاصرة التي ابتدعها وفرضها بشكل مؤسساتٍ يجب اتباع قوانينها داخل مجتمعاتنا،  لتغدو الإنكليزية وكأنها شرفٌ مهني أو علمي يُظهر تقدمًا ما أكثر من وصفها أداة تواصل بشري، دون أن نعي بأننا مسحنا أي محاولة لتقديم نموذج يُمثلنا. الأدهى هنا أن لغتنا لاتُعد واجهة لموروثٍ ثقافي قديم ( كما يصفها البعض ) فقط، بل ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالكتاب الديني الأهم في العالم العربي والذي يستمد منه التشريع سماته الأساس في مجتمعاتنا عدا وجوده في الفكر الجمعي الذي لايمكن عزله أو سلخه عن اللغة التي قُدم بها هذا الكتاب .. القرآن أقصد.

لا تصدق بأن اعتماد اللهجة العامية في الإعلانات، والاتكاء على الإنجليزية في الأنظمة الداخلية للمؤسسات، ومحاولة غلغلتها للحد الأقصى في الكتب التعليمية، وتقديم الفُصحى على إنها مُنتمية لحقبة زمنية غابرة، هو أمرٌ عابر، أبدًا .. فكل ما يرتبط بهذه اللغة من ثقافة وأنظمة تعليمية وأساتذةٌ مختصون يقع تحت مقصلة ادعاء الرجعية... نقول هذا ونحن نحاول ضمن أقصى ما يُمكن الابتعاد عن نظرية المؤامرة، ولكن كيف نبتعد عنها ونحن نرى المؤشرات قد أصبحت أدلة ؟!!،  لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر صورة أستاذ اللغة العربية في الدراما العربية عبر تاريخها.. هل يخرج عن كونه أستاذا منضبطًا لكنه غافل عن متطلبات الواقع؟  هل يظهر بصورة أخرى غير الصورة الكوميدية أو الشخصية التي لاتسيطر على انفعالاتها عدا كدحها وفقرها في الغالب ؟، أنظر لـ محمد هنيدي في دور الأستاذ مبروك أبو العلمين ، أو فاتن حمامة في دور أبلة حكمت أو نجيب الريحاني في دور حمام ... كلها تقدم لك أستاذ العربية وكأنه لا ينتمي لمنظومة الحركة الجمعية الطبيعية، أهذا فقط؟ ، بالتأكيد لا .. بمقدورك عبر تصفح بسيط لصفحات أقسام الجامعات الأهلية المستحدثة، ( في العراق على أقل تقدير )، أن ترى اضمحلالًا لأقسام اللغة العربية عدا التي تخلو مناهجها من الحصة المُعدة لذلك، وكأن أي مفهوم يرتبط بهذه اللغة سيهدم فكرة الحداثة التي يحاول منظمو ومؤسسو الجامعات تلك أن يبنو عليها تسويقهم المعرفي، أتريد أمثلةً أخرى ؟، لك ذلك .. حاول ببحث بسيط على الغوغل أن تتابع المشاريع العربية التي تمثل شيئًا من الاتصال بسوق العمل أو الواقع العربي المستقبلي لتجد هذه الأسماء ( نيوم ، سندالة ، ذة لاين ، ماي فوري ، سوبر كي ، بَلي ، سويتش، كيوبيك ، اربي سوفت، عالسريع ) وغيرها الكثير من الأسماء بين غربي ودارج لايتسع المقال لذكرها تضعك في موضع تساؤل وحيرة، وعدا ما سبق فلن نتفاجأ بأن القنوات العربية المشهورة التي تُدبلج الأعمال الفنية بكل أشكالها قد اتجهت إلى الاستغناء عن الفصيح واستبدالها باللهجات ( لاسيما المصرية والشامية )، كما أن هناك حركة عزوف واضحة عن استخدام اللغة الأم في البرامج الحوارية أو برامج المسابقات ولو من باب طرح الأسئلة، بل يتعدى ذلك إلى استقدام من هو غير مُختص لبناء منظومة لغوية في المناسبات الرسمية والحوارات الإعلامية، إثر ذلك لن نستغرب بأن نسبة المحتوى باللغة العربية للبحوث العلمية في العالم لا يتجاوز 1 بالمئة، وأن منصات البحوث المعنية بتوجيه هذه اللغة وتدريسها لغير المتحدثين بها تكاد تكون معدومة.

لو أقررنا بأن الأمر لايتصل بأي مؤامرة فلن نستطيع غض البصر عن ما يمكن أن نراه كرهًا حقيقيًا للغة الضاد، من أبنائها أولًا قبل أي تصنيف عرقي آخر، بل ومحاولة إظهار جمالها من وجهة نظر قاصرة، كما إظهار جماليات الأنتيكة أو النفائس الموروثة التي لايمكن استخدامها في تصميم المنزل ( المعاصر )، ولو تفحصت بشيءٍ من الحدس عن هذا الكره أو الرفض لوجدت بأنه مرتبط ارتباطًا ( مباشرًا أم غير مباشر ) بالتناقض والتنافر بين فلسفة اللغة العربية ذاتها القائمة على التفصيل والتنوع و إبراز الجمال مع البيان، وبين فلسفة العولمة الحديثة القائمة على الاختزال وقولبة كل شيء بقالب واحد، ومحاولة مكننة كل ما هو إبداعي كي يذوب على السطحي القابل للبيع... نعم .. من الممكن أن ترى الأمر مجرد مبالغة قائمة على الظن، ومن الممكن أن تتجاوز كلمات إيلون ماسك ( الغني عن التعريف ) حين وصفها بأنها " لغة العدو " دون التفات، لكن الواقع يُرينا بأن لغتنا الأم تُركت وحيدة أمام تيار جارف لا يعترف بالأصالة، بل الحق يقال بأن المُلام على ما وصلت إليه يقع على عاتق أبنائها في المقام الأول، وكيف لا وهم غير مُنتجين علميًا، ولايفرضون أي نوع من القوة الناعمة في أرض الله، وعدا كل ما سبق يمكن باطلاع بسيط على مجتمعاتنا العربية أن تدرك الفجوة بين الاستخدام الفصيح للغة ( أو المتوسط الفصاحة على الأقل ) وبين لغة التعامل اليومي التي ارتفع فيها منسوب الكلمات التي لا أصل عربي لها، ونحن هنا لا نطالب بأن تكون الفصحى لغة التعامل اليومي فهذه مطالبة لاتتوافق مع روح العصر والواقعية كذلك، ولكننا ولأسباب أنف ذكرها يمكن أن نقدم النموذج الوسط الذي يندرج ضمن المادة المقروءة أو في ثقافتنا اليومية، كالمراسلات وتبويبات التطبيقات العربية، واللغة داخل وسائل الترفيه كافة، وإشارات المرور، وعناوين المشاريع التجارية، وغيرها الكثير، لا أن نفهم الدارجة على أنها صرعة حداثوية فنحارب بها الفصحى ونتندر بورودها ضمن التعريف بالمشاريع أو ضمن إلقاء الخطب الرسمية.

نعم .. نحن نعلم بأن الثقافة العربية تحت ضغطٍ كبير، فما بالك باللغة التي تمثلها، ونعلم أيضًا بأن عوامل سياسية ، دينية ، اجتماعية ، و توسعية ترى بأن لغتنا عقبة من الضروري تجاوزها، كي تنسى شعوبنا الرموز التي تحرك فيهم الرفض ضمن عملية الانحلال العولمي،  فاللغة العربية تحمل بصمتها الوراثية الخاصة التي لاتتوافق مع الرؤية التي يحملها الآخر لبدء النظام العالمي الجديد، وهي هنا تنتقل من دورها كأداة تواصل إلى ما يُمثلنا نحن، فهل نتعض ونستيقض كما فعل الصينيون.

 

 


مشاهدات 115
الكاتب علي حجارة
أضيف 2025/10/04 - 3:15 AM
آخر تحديث 2025/10/04 - 7:06 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 583 الشهر 2564 الكلي 12042419
الوقت الآن
السبت 2025/10/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير