همسات ساخنة .. ومضات هادئة
عندما تفقد الخصومة فروسية الشرف
لويس إقليمس
أن تنحدر السياسة في عراق الأصالة والحضارة والثقافة والإنسانية تاريخيًا ومجتمعيًا ودينيًا وعرفيًا وعشائريًا إلى الدركات السفلى وبأدنى درجات الانحطاط في التعامل بين الخصوم عبر التهديد بنشر أعراضهم وفضح خصوصياتهم، فذلك أقصى وأقسى ما يتعرض له الوطن وأهلُه وقيمُه الحضارية والأخلاقية حيث الطعنُ الحاقد بأغلى ما يمتلكه البشر في مسيرة حياتهم، «الشرف»! فهذا من مظاهر فقدان الخصومة لشرف الفروسية التي تفتقرُ إليها مجتمعات متهالكة مهزوزة وهشّة ناجمة عن هشاشة المنظومة السياسية والاجتماعية في بلدٍ فقدَ موازين الحرية الصحيحة وتغلّف بمظهر ديمقراطية دخيلة لا تليق لا بماضيه الزاخر ولا بحاضره المهزوز، كما لا تشفع لمستقبله الغامض. فيما شرفُ الخصومة في المجتمعات الراقية له أخلاقياتُه الواضحة ولا يخلو من قيم الفروسية الثابتة في حياة الشعوب والأمم.
خفايا ودهاليز
في هذا الزمن العكر الذي يسبق تجربةً انتخابية «سيركية» جديدة حبلى بخفاياها ودهاليزها حيث تحولت فيه استعراضات السيَر الذاتية لعددٍ كبير من مرشحي كتل وأحزاب انتهازية وفاسدة في معظمها إلى عروضٍ «مهوالية» في بعضها و»مكوارية» في بعضها الآخر في التهديد والانتقام والانتقاص من خصوم منافسين، نُصعقُ أخيرًا وليس آخرًا بظاهرة سلبية جديدة غير متداولة في دوراتٍ سابقة ولا في حقبٍ سياسية قديمة، تقوم على مبدأ تهديد الخصوم بنشر صورٍ أو وسائل مرئية لأعراضهم وإفشاء أسرار بيوتهم وفضح مخابئ نسائهم عبر الطعن بالشرف الأسري. فهل انحصر هذا الأخير لدى بعض الفئات الحاكمة والمتنفذة الباغية والمنغمسة لحدّ النخاع في أدوات الفساد الطاغي وفرص نهب المال العام بلا مسوّغ ولا حق وفي ممارسة أشكال السرقات بلا رقيب ولا محاسبة، في شكل هذا الأسلوب الدنيء الذي لا يلجأُ إليه سوى المفلسون في القافلة والساعون لفرض وجود غير أخلاقيّ وغير قانونيّ وغير دستوريّ في مسيرة الوطن السياسية الغائبة عن معظم السيرالذاتية لمرشحين احتارت المفوضية العليا «المستقلّة» للانتخابات في كيفية التعامل معهم ومع تاريخهم ومَن يصطفُّ معهم ويموّلهم ويسندهم من زعامات السلطة؟ فحين تستخدم السلطة الحاكمة وزعاماتُها المنافقة بلا تمييز ولا استثناء نفوذَها الغادر وغير الأخلاقيّ في الدفاع عن بعض مرشحيها عبر اللجوء لأدوات ضغط غير اخلاقية ومثيرة للجدل في إجراءٍ وقحٍ لفرضِ تثبيت بعضهم وإزاحة غيرهم ممّن لا ترضى على معارضتهم لشكل المنظومة الحاكمة وشخوصها الممجوجة والمرفوضة مجتمعيًا، أو باستبعاد آخرين من المشهود لهم بمسيرتهم الوطنية النقيّة التي أثبتوا فيها ولاءَهم للوطن ومحبة الناس والدفاع عن الأرض والمياه والسماء، فهذا أقصى ما تصل إليه درجات السياسة من خسّة ومهزلة في بلد مهزوز ومنهوب وفاقد السيادة والقرار، مهما ادّعت السلطات غير ذلك. فالعرض لم يكن قطّ لدى أهل الشرف الحقيقي في أيّ زمنٍ من الأزمان سلعةً أو أداةً للمساومة والابتزاز في مجتمعنا العراقي إلاّ في هذا الزمن الغادر الذي ضاعت فيه القيم وتاهت الأخلاق وغابت النخوات، فأصبحنا في غياهب الزمن ومتاهات الظلام على حدّ قول الشاعر:
وإنّما الأمم الأخلاقُ ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا، هذا، بعكس ما تسعى إليه أطرافٌ مهزوزة وانتهازية مثيرة للجدل لاتخاذ الشرف وسيلةً فاعلةً من وسائل الضغط السياسيّ الماجن من أجل إسكات الأصوات المتنافسة بالندّية الشريفة وكمّ أفواه المعارضين السياسيّين المعترضين على سوء الأداء الإداري والمالي والمجتمعي والأخلاقي لأفرادٍ أو مجاميع أو أحزاب أو جماعات متجمّلة في معظم برامجها وحركاتها بالدين والمذهب والطائفة عبر الشعارات الولائية الفارغة المنتشرة اليوم أكثر من أي زمن آخر في معظم مفاصل الدولة والمجتمع انطلاقًا من مبدأ غياب الشرف في أية خصومة أو عملية تنافسية ندّية شريفة في ضوء ما يحصل اليوم على الساحة السياسية. من هو الوطنيّ في نظر ساسة الصدفة حين تختلط الأمزجة وتتقاطع المصالح وتتناقض الرؤى في تعريف الوطنيّ من الناس وتمييزه عن الولائي الذي يدير ظهرَه للوطن ويتفاخرُ بالتبعية الصريحة لغيره ممّا وراء الحدود وبالاستعداد لوضع كلّ كيانه لخدمة الدخيل عنه والغريب والطامع فيه تاريخيًا، حينئذٍ يفقد الوطنُ أحد أركان أسسه وأعمدته المهمّة في تعريف الوطنية الصحيحة وتمييزها عن سخافات اليوم لدى ساسة الصدفة ومَن أتى منهم على ظهور دبابات الغازي الأمريكي أو مَن لحق بالركب الفاسد لاحقًا مستفيدًا ومستثمرًا ومستغلًّا للوضع الطائفي والمذهبي من حكّام المنظومة القائمة. فبمجرّد تعبير المواطن الصالح في هذه الظروف المتهرّئة عن اعتراضه على شكل نظام الحكم الفاسد في البلاد وصبّ جام غضبه على المنظومة السياسية الهزيلة وزعاماتها وأذنابها وأدواتها، تجد الاتهام الجاهز «أبناء السفارات» أو «أتباع المنظمات الدولية» أو «التشارنة» أو «جماعات الرايات» أو «مرتادي المطعم التركي» أو حتى «الشذوذ الجنسي» وما سواها من أوصاف غيرها غير رصينة في مواجهة المنتفضين والمعارضين أو في ملاحقتهم لحدّ التصفية إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
زيارات سرية
في حين أثبتت الوقائع والتسريبات والزيارات السرية لعددٍ من السفارات ووقائع الاجتماعات بمسؤوليها المنقولة عمدًا أنّ ساسة البلاد وزعامات السلطة وشخوص الفصائل ومَن يواليهم جميعًا، هم من أكثر مَن طرقوا ومازالوا يطرقون أبواب هذه الجهات «الكافرة» ليس حبًّا بمصالح الوطن والشعب، بل استرزاقًا وتيمنًا بمكارم إدامة البقاء على رأس السلطة وفي مواقع نفوذ وجاهية لم يكونوا يومًا يحلمون بما حملته ومازالت هذه تجلبُه لهم ولعوائلهم وأذنابهم وأدواتهم من مكاسب وتخادم لم تعدْ خافيةً على أحد. إنها فلسفة الجهلاء! بل هي الشعور بالنقص الذي تتزايدُ عُقَدُه المتنامية مع اقتراب يوم الحسم. وما التصرّف بهذه الطريقة الفضّة إلاّ بسبب بلوغ القناعات الواقعية المخفية والمستترة في الطوايا ببُعد ملاءمة المواقع والمناصب التي تبوّأوها، ما جعلهم يتصرفون بطريقة فوقية سلبية ضدّ الخصوم في محاولة يائسة للحدّ من طموحات المنافسين المشروعة أو توجيه الاتهامات ضدّهم بشتى الطرق والوسائل. حتى مَن طالبَ ويطالب بوطن، لم يعدْ ينجو من اتهام جاهز أو اعتقال أو تهديد أو بطشٍ أو حرمان من حقوق.
من هنا وفي ضوء تسارع الأحداث بخصوص تسريبات وتوقعات بتغييرٍ مرتقب في المنظومة السياسية بل في العملية السياسية برمتها في القريب المنظور بحسب البعض من المتابعين والمحلّلين والمقرّبين من مراكز القرار الأممي والإقليمي، مازال المستأثرون بالسلطة والمتناغِمون معها نفاقًا أو تخادمًا يستخدمون وتر الاتهامات الجاهزة في الطعن بوطنية المعارضين والمنافسين من وجهة نظر ناقصة لا تعي قدر الديمقراطية التي يتهامسون بصدد فحواها هذه الأيام في مؤتمرات وتجمّعات ويفشلون بتطبيقها في يوميات حكمهم البائس منذ أمد عبر أدوات القمع وجهوزية توجيه الاتهامات والملاحقات. فالإخوة الأعداء «الجياع بالأمس بعد أن شبعوا»، لم يعودوا يتحملون صعود غيرهم على منابر الخطابة السياسية البائسة حاليًا أو ارتقاء غيرهم للحكم بديلاً عنهم أو رديفًا لهم لأخذ فرصهم الوطنية بعد فشل معظم شخوص المنظومة السياسية منذ السقوط الدرامي في 2003 ولغاية الساعة. ومثل هؤلاء، يتناسون المقولة الصارخة « لو دامت لغيرك، ما آلتْ إليك». بل إنهم يعدّون غيابهم عن المشهد السياسي وابتعادهم عن النفوذ و السلطة ومكاسبها ووجاهتها وما تدرّه لهم ولأتباعم من ثروات وامتلاك عقارات وامتيازات دبلوماسية ومناصب ومتع لا حصرَ لها في الداخل والخارج، بمثابة خسارةٍ عقارية كبرى أو فقدان صكّ تثبيت المُلكية المتوارثة عن السلف وكأنّ أرض الرافدين وما فيها وما عليها كانت ضمن أملاك هذه الطائفة وهذا المذهب وهذا المكوّن وهذه الزعامات. وهذا ما حدا بقول أحد رموزهم الفاسدة للقول «هو يكدر أحد ياخدها حتى ننطيها». ومن المؤسف سماع مثل هذه التصريحات الساذجة وغير الوطنية انطلاقًا من مسوّغات طائفية ومذهبية وفئوية ضيقة بغية إدامة مصالح الكتل المتنفذة بلا استثناء والتي امتدّت في هذه الأيام الغبراء لضمان المكاسب العائلية والعشائرية والحزبية والمناطقية والشخصية متمثلة بترشيحات أبناء عوائل رؤساء الأحزاب والوزراء والنواب ومقربيهم لمناصب السفراء التي تعتبر كارثة وطنية بحق التمثيل الدبلوماسي كواجهة تمثيلية للبلاد في الخارج. وهذا ممّا اثار انقسامًا سياسيًا واشمئزازًا مجتمعيًا واسعًا من الجدل حول اختيار المرشحين، سواءً بسبب قربهم العائلي من زعامات السلطة والمتنفذين أو لغياب سنّة التدرّج المطلوبة عادةً في كواليس السلك الدبلوماسي أو بسبب افتقاد العديدين منهم للكفاءة والخبرة المهنية والأسس الثقافية والعلمية في تمثيل البلاد والشعب. فهل انتقلت العملية السياسية من دارة الحكم الوطني إلى سيرك الحكم العائلي ومن حُكم الدولة إلى حكم الطائفة والمذهب والأحزاب والكتل والمكوّنات؟