الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نور في الظلام

بواسطة azzaman

نور في الظلام

فراس عبد الحسين

 

استيقظ عثمان على همس المطر الرقيق على زجاج نافذته، وكأن العالم يتدرب على إيقاعه الخاص قبل أداء عظيم. شعر أن هذا اليوم يحمل اختلافًا عميقًا في طياته؛ فليس فقط سيؤدي دورًا جديدًا ومميزًا لم يسبق له مثيل، بل سيواجه جمهورًا كاملًا دون أن يرى عينًا واحدة منهم. عليه أن يوصل كل ما يريد قوله بصوته الجذاب المليء بالإحساس، وجسده المعبر، وحضوره القوي، متخليًا عن أي نظرة أو إيماءة بصرية قد تساعده.

أعد قهوته بحذر شديد، متلمسًا آلة صنع القهوة التي يحفظها كظهر يده من كثرة الاستخدام. جلس على الكرسي الجلدي البالي الذي انقصمت إحدى رجليه، وكانت أصوات صريره الخافتة تصدر مع كل حركة، تعكس هشاشة المكان وحالة الانتظار التي تعيشها روحه القلقة. أخرج هاتفه الجوال وفتح تطبيق التسجيلات الصوتية الخاص به. دوّن ملاحظاته بصوته المبحوح: الشخصية اليوم حزينة جدًا لكنها لا تبكي، فقط تنهار من الداخل بصمت.

تذكر كلام المخرج الذي قال له إنه لا يحتاج أن يرى ليشعر، فقط عليه أن يسمح لجسده أن يحكي عنه بصمت وعمق.

خرج من البيت ومشى نحو المسرح، يحفظ الطريق بكل دقة وتفصيل: سبع وعشرون خطوة من الباب إلى الزاوية التي تحمل رائحة الياسمين، ثماني خطوات إلى الدرج الذي تتآكل حجارته، ثم يتجه يمينًا حيث يلفحه نسيم بارد، واثنتا عشرة خطوة إلى الحافلة التي يتذكر صوت محركها المميز. كل خطوة كانت نبضة من قلبه، دليلًا يخط مساره في عالم لا لون فيه إلا ما يراه هو بحدسه.

وصل ليجد نفسه أمام الخشبة، لا يعرف لون الستائر التي تخفي المسرح، لكنه يشعر بحرارة الأضواء المتوهجة التي تدفئ الهواء من حوله، ويسمع أنفاس الجمهور المتحمسة وهي تتسلل همسات خافتة، ويشم رائحة الخشب القديم الذي يملأ المكان بعطره الأصيل. رافقه أحد المساعدين داخل المسرح الكبير والرحب، فمد يده يلمس المقاعد، ثم جس الجدران، وسأل بهدوء: هل المسرح دائري الشكل؟

تذكر في نفسه كيف كان المخرج يكرر له بحنان: المسرح دائري، لكن عالمك فيه بلا حدود. لا تحتاج أن ترى بل أن تشعر بقلبك، وأن تمشي بثقة وتكون الصوت والظل معًا. ضحك عثمان لنفسه بصوت هادئ وقال: الأمر جميل، كأني سأخطب في جامع. ضحك الآخر بلطف وقال له: الخشبة مسرح أحلامك، وعليك أن تمشي بثقة عالية بالنفس.

في الظلام الدامس، وقف خلف الستارة السميكة، متأهبًا يستعد لعبور بوابة إلى عالم آخر. لامس بحذائه نقطة الطباشير بمساعدة المخرج، لتكون دليله الأول نحو ذلك الضوء الذي ينتظره في عتمته الخاصة. ملأت الكواليس روحٌ قديمة وعميقة، تتداخل فيها رائحة الغبار العتيق والمسامير الصدئة مع عبق طلاء الجدران، وقد امتزجت بعرق الأجساد المتوترة. حتى الجدران بدت وكأنها تتنفس بصمت، حاملةً همسات التقنيين الهادئة، وخشخشة الأوراق الرقيقة، وصوتًا خافتًا لأحدهم يعدّل زاوية الضوء بدقة متناهية.

تنفس ببطء وعمق، يتلمس سترته الصوفية التي يعشقها، ويحرص على ارتدائها في كل عرض مسرحي. تحمل في طياتها رائحة أمه الدافئة والعزيزة على قلبه، وكأنها تميمة حظ تمنحه الأمان والثقة في كل مرة يقف فيها على الخشبة. تأكد من أن العصا البيضاء الثمينة موضوعة جانبًا، تمامًا كما اتفق مع المخرج، رفيق دربه على خشبة هذا العالم الواسع الذي يكتشفه بحواسه الأخرى. عثمان، الممثل الأعمى الذي لم يرَ وجوه جمهوره قط، ولا يدرك تمامًا شكل المسرح الذي أمضى فيه أيامًا طويلة من التدريب الشاق والمكثف، لكنه حفظ كل زاوية فيه بعدد خطواته الدقيقة، وكأن المسافة بينه وبين العالم الواسع تُقاس بنبضات قدميه الواثقة، لا ببصره المفقود.

كانت الخطوة الأولى نحو الخشبة لحظة محورية وعميقة، لحظة تساءل فيها بينه وبين نفسه إن كانت مشاعره الصادقة ستصل إلى الجمهور حقًا، دون أن يرى أعينهم المتلهفة لتمثيله. لقد تدرب طويلًا ليجعل من صوته دليلًا قويًا يوصل به رسائله، ومن انحناءة كتفه لغة صامتة تعبر عن ذاته العميقة، ومن تنهيداته ظلالًا تتراقص على جدار الصمت الرهيب الذي يحيط به.

مع بدء العرض المترقب، وقبل أن يخطو خطوته الثالثة الحاسمة على المسرح، عاد إليه صوت الجمهور الهامس، ضحكات خافتة تتسلل عبر الظلام، وصرير كرسي يُسحب ببطء من مكانه. ثم، عند الباب، سمع إيقاعًا مألوفًا لعصا تصطدم بالأرض، صوتًا يعرفه جيدًا ويعشقه، صوت صديقه. تسلل دفء خفي ومريح إلى صدره، كأن الأمان قد جاءه على هيئة نقرات خشبية عزيزة ومألوفة، لتطمئن روحه القلقة. ازداد ثباته وازداد ارتفاع ذقنه قليلًا، فخطواته أصبحت أكثر يقينًا وإقدامًا لوجود صديق عمره، حسن، هناك في قلب الجمهور يسنده ويشاركه هذه اللحظة العظيمة.

تغلغل في ذاكرته العميقة، مستعيد شيئًا قديمًا وجميلًا من أيام الصبا: حسن، صديق طفولته الأعمى، شريكه الوفي في أولى خطوات الحياة وفي كل مغامرات الطفولة. معًا، خاضا تجارب لم تحتج للعينين المبصرتين بقدر ما احتاجت للخيال الواسع والخلاق الذي امتلكاه بكل قوة.

كانا يلعبان الغميضة بسخرية في باحة المدرسة المليئة بذكريات الضحكات، ويتباريان في سرد القصص عن أشياء لم يرياها يومًا واحدًا مثل شروق الشمس بألوانها الخلابة، ولون البحر الأزرق، ووجه المعلمة الحنون. اختلقا ألوانًا خاصة بهما من وحي خيالهما، وسمّيا الريح "راقصة الأغصان"، والقطار "وحش الحديد الراكض". كان الراديو نافذتهما السحرية إلى العالم، والرصيف أمام بيت حسن مسرحًا لأحلام لا تنتهي.

حسن هو الوحيد الذي زرع في عقل صديقه فكرة أن يكون ممثلًا مبدعًا، وأن التمثيل ليس حكرًا على من يرى بعينيه، بل هو فن للروح. ضحك عثمان حينها بخفة، لكنه احتفظ بتلك الجملة العميقة في عمق روحه، كما يحتفظ الأعمى برائحة عزيزة يحبها ويشتهيها. كانت تلك الكلمات شرارة حقيقية لمسيرة فنية لم يسبق لها مثيل.

الآن، دخل حسن القاعة بصمت وخشوع، تلمس مقعده المخصص في الصف الرابع ببطء، وجلس متكئًا على صديقه المبصر. همس له: لا تشرح لي شيئًا على الإطلاق، بل اصمت تمامًا حتى أسمع التمثيل بقلبي دون أن تفسده الشروح المرئية. بعد لحظة من الصمت المفعم بالترقب، أردف حسن: هذا صديق طفولتي، أرى تمثيله المبدع بقلبي وروحي، قبل أن تراه عيون الآخرين. تلك الشهادة الصادقة كانت بمثابة ضوء خفي ينير خشبة المسرح العظيمة أمام الجميع.

مع الخطوة الثالثة التي خطاها، سطع ضوء باهت وارتفعت الستارة ببطء وأناقة. كان الديكور بسيطًا ومؤثرًا في آن واحد: جدران مطلية بألوان دافئة تعكس حميمية المكان، وطاولة خشبية صغيرة مغطاة بمفرش متواضع، عليها منفضة سجائر وكتاب مفتوح وراديو قديم يصدر همسات موسيقية الخلفية. ينساب ضوء خافت من مصباح معلق في السقف يلقي ظلالًا ناعمة تملأ الغرفة دفئًا وحياة هادئة ومريحة.

تقدم خمس خطوات ثم جلس على الكرسي، كأنه يبحث عن كيانه الضائع في عمق المكان. نهض من الكرسي وتراجع ثلاث خطوات ثم عاد يقترب. تحدث لا عن شخصية في مسرحية، بل عن حياته التي عاشها.. ثم صاح متسائلًا: لماذا تركتني هناك في الزاوية التي لا يصلها الضوء.. حيث يختبئ البكاء من الناس المتطفلين؟

كان حسن في الصف الرابع يهمس لصديقه المبصر بجانبه: "هذه الجملة قالها لي قبل سنة كاملة بعد وفاة أمه المفاجئة". لم يكن أحد يعرف أن الدور الذي يلعبه هو انعكاس صادق لروحه: رجل أعمى يفقد أمه ويبحث عنها في صوته الداخلي العميق، في تفاصيل الذاكرة الحية وفي الحلم الليلي الذي يطارده.

تذكر الممثل كلمات أمه الدافئة وهي تمسح يده بحنان بالغ: "الله لم يأخذ منك النور يا بني، بل نقاه، وترك لك النور الحقيقي الذي في داخلك يضيء طريقك دائمًا." وعندما يتذكرها، يشم رائحة الخبز الذي كانت تخبزه بنفسها، يسمع تكسر جريد النخيل المألوف، ويشعر بلمستها الحانية فوق جبينه المتعب.

تقدم ثلاث خطوات ثم صمت، التفت بصمت عميق نحو الكرسي كأنه يراه بوضوح تام، مد يده ولمس ذراع الكرسي وقال بصوت مؤثر للغاية، وقد اهتز صوته بصدق المشاعر: لستُ وحيدًا.. فقط الناس لا يرونني كما أنا في الحقيقة.

استمر العرض مع صمت الجمهور المطبق.

ثم انطلقت التصفيقات الحارة من الجمهور بحماس، لكنها لم تكن نهاية العرض بعد. أكمل حديثه، مؤكدًا أنه لا يحتاج لعينيه المبصرتين ليحب بصدق وإخلاص، ولا للضوء ليرى العالم الواسع، فنوره محفوظ بداخله كآية من آيات الجمال، مقطع موسيقي خال من العيوب، كنغمة لا تتوقف أبدًا عن عزفها.

كان حسن يصفق بحرارة ودموعه تسيل على وجنتيه من شدة التأثر. قال لصديقه المبصر بصوت خافت، وقد اهتز صوته: "إنه لا يمثل بل يتنفس الحياة بكل تفاصيلها" وعندما تساءل أحدهم كيف يفهم مشهد الغروب أو ضوء الشموع الخافتة، أجاب حسن بكلمات عميقة: لقد رأى ما لم يره الآخرون، رأى بألمه وحنينه وتجاعيد قلبه النابض بالحياة والإحساس.

وقف في منتصف المسرح تمامًا، حيث كانت أقدامه تحصي خطوات الرحلة الطويلة التي قطعها في حياته. سبع خطوات فقط تفصل بينه وبين الستارة المفتوحة. لكن تلك الخطوات كانت أبعد من مجرد مسافة مادية، كانت مسافة روحية عميقة وبعيدة المدى. مدّ يديه ببطء شديد، وكأنهما تلامسان هالة غير مرئية تحيط به، وجودًا يشعر به أكثر مما يراه. انحناءة رقيقة استحضر بها صمت القلب الرهيب، صلاة خافتة أرسلها إلى كل ظلمة في هذا العالم الفسيح.

حينها، لم تكن تصفيقات الجمهور مجرد أصوات صاخبة عابرة، بل كانت نبضات قوية تعانق روحه المتفردة، أنفاس حضن دافئ يمتد من ظلال الخشبة إلى أعماق قلبه المفعم بالحياة. لم تكن الأضواء الخارجية هي من تضيء المسرح، بل كان النور ينبعث من الداخل، من ذلك الصوت الروحي الذي لا يُرى بالعين المجردة، من الإحساس العميق الذي يتحدى كل حجب العتمة التي تحيط به.

رجع ببطء وهدوء، وكل خطوة يرددها صدى قلبه الدافئ والنابض بالحياة. عودته لم تكن فقط إلى الكواليس الخلفية للمسرح، بل كانت عودة إلى ذاته التي تقف شامخة وقوية رغم فقدان البصر الذي اختبره بقوة. ابتسم رغم عتمة عينيه، وأدرك أن الخشبة ستظل مضيئة ومتوهجة ما دام قلبه ينطق بالحياة والعزيمة والإصرار على الاستمرار. عرف أنه لا يحتاج لرؤية العالم بأكمله، بل يكفيه أن يرى نور وجوده الداخلي المتألق والمشع.

 


مشاهدات 99
الكاتب فراس عبد الحسين
أضيف 2025/11/23 - 4:31 PM
آخر تحديث 2025/11/24 - 1:45 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 68 الشهر 17203 الكلي 12678706
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير