مدارس تحت الرماد
فاروق الدباغ
في كل مجتمع، المدرسة هي المرآة الأولى التي يرى فيها الطفل نفسه والعالم. فإذا كانت هذه المرآة مكسورة، فلا عجب أن يكبر الإنسان مشوَّه الصورة، لا يرى ذاته بوضوح، ولا يدرك واقعه إلا مشوشاً. الجهل لا ينشأ من الفقر وحده، بل من تعمد إطفاء شموع الوعي، وترك الأطفال يمشون في العتمة وهم يظنون أن الضوء خرافة. ومن هنا، لا يمكننا الحديث عن نهضة وطن، أو إعادة إعمار، أو وعي جمعي، طالما أن مقاعد الدراسة خاوية إلا من الأنين.
في إحدى مدارس نينوى المستعارة، المنهكة جسداً وروحاً، تتناوب ثلاث مدارس في مبنى متهالك لا تصلح جدرانه أن تحمل أحلام طفل، فكيف بعقول ثلاثة أجيال. إحدى هذه المدارس تضم طلبة من أعراق شتى: العرب، الكرد، الإيزيديين، الكاكيين، التركمان… أبناء النازحين الذين خرجوا من نار الحرب ليقعوا في جحيم الإهمال.
ورغم أن الكادر التعليمي الورقي يُسجل أكثر من 12 معلماً، فإن الواقع لا يَعرف منهم إلا أربعة. أما البقية، فهن زوجات مسؤولين ونواب لم تطأ أقدامهن قاعة دراسية، لكن رواتبهن تصل كل شهر، وكأنهن يحملن الطباشير والهمّ يومياً. هذه الوظائف “الفضائية” ليست فقط سرقة من المال العام، بل سرقة من عمر الطالب، من مستقبله، من الوطن نفسه.
في الصف الخامس، لا يستطيع معظم الطلاب كتابة جملة عربية بسيطة. ومع ذلك، يُطلب من المعلمين أن “ينجح الجميع”، كأن الغاية ليست التعليم، بل التمرير، والتغطية، والمضي نحو الكارثة بخطى واثقة. لكن ماذا سيحدث بعد عشر سنوات؟ هؤلاء الأطفال سيصبحون موظفي الدولة، وربما قادتها، وربما أمهاتٍ يربين أجيالاً جديدة على نفس الركام..الواقع المؤلم لا يحتاج إلى تحليل طويل: أوراق امتحانية تثبت الفجوة العميقة، جهل واضح، وتجاهل أوضح. الأساتذة الحقيقيون معدودون، ومن يعمل منهم تابع إدارياً لمحافظة أخرى، ويُدرّس في مدرسة مؤقتة ضمن تنسيقات غير رسمية، لا كيان لها ولا ضمان.
هذه ليست أزمة تعليم، بل انهيار مجتمعي مقنّع. كل من يسكت اليوم عن هذه المأساة، هو شريك في ولادة جيل مشوه فكرياً وأخلاقياً. الكارثة لا تحل بمؤتمرات ولا تصريحات ولا زيارات مصورة، بل بخطة حقيقية لإصلاح جذري، تبدأ بمراجعة الأسماء الوظيفية، وتحقيق العدالة في التوظيف، وإعادة بناء المدارس مادياً وبشرياً، وتوفير الدعم النفسي والتربوي للطلبة والمعلمين معاً.
فكفانا ذرّاً للرماد في العيون… الجمر بات مكشوفاً، والشرر بدأ يلتهم ما تبقى من هوية الوطن. العراق لا ينهض بمشاريع وهمية ولا بشعارات جوفاء، بل بنهضة تعليمية حقيقية، تنقذ الإنسان قبل أن تُرمم البنيان. فهل من مجيب؟