الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ساعة بولاد

بواسطة azzaman

ساعة بولاد

كامل عبدالرحيم

 

في وصلة فيديو قديمة متداولة على النت يسأل الممثل سامي قفطان الملحن طالب القرغولي، ماهي أول هدية حصلت عليها، وجدت السؤال بلا معنى لاسيما وقد بهت المرحوم طالب منه، تركت الهاتف جانبا وتأملت، ماذا لو سألوني هذا السؤال الذي بلا معني وفجأة انبثق من تحت رماد الذاكرة معنى وحادثة قديمة وساعة يدوية كنت قد نسيتها تماما وطمرت تحت ركام الأحداث والوجوه والخيبات، قد تكون أول هدية خاصة أو بمعنى. كانت ساعة يدوية هي أول ساعة شخصية لي تعلن الإيذان باستقلال شخصيتي أو الاعتراف به من قبل مانج الهدية.

ساعة يدوية قدمها لي أبي. استرجعت الهدية وأسبابها فقلت كانت هدية نجاحي في بكالوريا السادس الابتدائي، ولما دققت في ذاكرة الأحداث وتقاويم الحياة وجدت أن أبي كان قد مات قبل دخولي الامتحان الوزاري.

لم يقدم أبي هدايا كثيرة لي في حياته السريعة، كما أنه لم يقدمها لي شخصيا يوما، بل كانت هداياه تصل عبر أمي.

أول هدية كانت من زيارته إلى إيران مع وفد غرفة تجارة بغداد قد تكون في العام 1960 وحتى ربما في عام ثورة تموز نفسها ومازالت صوره بأناقته الهوليوودية ضيفا على عائلة ضابط إيراني من جماعة محمد مصدق، رئيس الوزراء الإصلاحي الإيراني المعروف ولا أدري سر العلاقة بينهما، كانت الهدية عبارة عن مسدس قراصنة زهري اللون يطلق رصاصات على شكل كرات بيض، كرات لعبة المنضدة، الهدية الثانية هي بدلة) مغازة) هكذا وصفتها أمي بفخامة، ربما تكون الأكثر أناقة من كل ما ارتديت، كانت ثلاث بدلات لي ولأثنين من اخوتي، من يصغرني ويكبرني مباشرة، ولدي صورة في حديقة الأمة بالقرب من تمثال الأم وأنا ألوك مضغة بيض بالعمبة، أرتديها ولطالما ذكرني بها الممثل ماستريو ماسترياني وهو يلبس قرينا لها في أحد أفلامه. الهدية الثالثة والأخيرة كانت هذه الساعة، انبثقت كل تفاصيلها وتوهجت في ذاكرتي، بسوارها وإطارها الفضيين وشاشتها الملونة بلون أخضر أليف وعقاربها التي بلون السوار والإطار، كانت الساعة ماركة) أولما) لكنها بامتياز لتاجر عراقي وقد عاد اسمه متوهجا (الخالدي). هذه الساعة وذلك الخالدي كان مثل حجر صغير مضيء يسقط في قاع المحيط لينير أسراره ومطموراته، كان دكان أبي الأول قبل تحوله إلى دار الأهالي، رغم صغره متحفا للأشياء الصغيرة والأنيقة، بالإضافة للصحف والمجلات بأغلفتها الملونة وعناوينها بكل اللغات، عربية وإنجليزية وروسية وصينية، كانت هناك رفوف لأقلام الباندان ماركتي باركر وشيفرز، محابر لها بكل الألوان، أزرق أسود أحمر أخضر، علب سيكاير فاخرة بما فيها على شكل علب أسطوانية، أتذكر منها اللون الكركمي لسكاير ( Camel) والأحمر والأسود ل( Craven)، هناك أيضا علب شوكولا سويسرية راقية ونمانم هدايا وقرطاسية أخرى، لاحقا، كان هناك مكان خاص لعدة تصليح ساعات تعود لشريك أبي (أبو يوسف( الذي أدار الدكان بعد توسع أعمال أبي، لكن هذه العدة لا علاقة لها بالساعة الهدية. كان المكان يضم الكثير من محلات وشركات الساعات السويسرية واليابانية، وهنا أحاول تقصي من أين اشترى أو اقتنى أبي تلك الساعة. لم يكن الخالدي على قائمة أصدقاء أبي كما تقول ذاكرتي الغضة. مع الساعة وبحثي عنها أزلت الغبار عن شخصية أخرى، قد يكون وهذا ما أرجحه، هو الذي باع أبي ساعة الأولما. عبد الرزاق بولاد.

مقابل دكانة أبي الصغيرة كانت لافتة كبيرة لمحل كبير تعلن عن) عبد الرزاق بولاد وأولاده للتجارة (يقع في الطابق الأرضي لعمارة عبود، العمارة المدورة الشهيرة في الشورجة والتي مازالت في مكانها.

قد يكون عبد الرزاق بولاد بعمر أبي وله صداقة غامضة به وعندما انتقلنا إلى منطقة المنصور نهاية عام 1963، كان عبد الرزاق بولاد قد سبقنا بتشييد بيته و كان على مقربة منا و أكبر مساحة لكنه يذكرني ببيت الأشباح لأمر ما، هل كان لبولاد دور باختيار أبي لبيته، ربما، كانا أصدقاء بشكل ما، هذا ما عرفناه ولم نتيقن منه لسرعة غياب أبي من مشهد الحياة وارتباك حياة بولاد لاحقا، زواجه الثاني وربما إدمانه للخمر وانتهى الأمر بتسفيرهم الوحشي، في واحدة من حملات التسفير، كانت كنيته (أبو سعد) وجذوره تعود كما سمعنا إلى لواء العمارة، وسعد نفسه كان بعمرنا وأصبح صديقنا لبرهة من الزمن وله أخوات يكبرنه، وكن جميلات، متأنقات وعصريات، أفكر ماذا حل بهن في معاناة التسفير.

كان محل عبد الرزاق بولاد كبيرا ومرتبا ويختص بتجارة الأجهزة الكهربائية وسخانات الماء وله زاوية مختصة ببيع الساعات، ومازلنا نبحث عن ساعة الخالدي ولهذا أرجح شراء أبي لساعة الخالدي من محلات بولاد.

هالتان سوداوان تحيطان بعيني بولاد فتكثفان كآبته وكذلك حاجته المستدامة للنوم، يلف حول رقبته شالا أسود مع طقم داكن اللون دائما وفي أيام البرد معطف طويل أسود يختلف عن معطف أبي، البيج الطويل. كآبته استباقية تستشرف مأساوية ما سيحل به وبعائلته، بشكل ما، مصيرهما، هو وأبي، يتشابه، فبائع الساعة ومشتريها هدية لابنه، كان ينقصهما الوقت، الوقت الباذخ في ساعة الخالدي توقف بسرعة عندهما فانطفآ تاركين رمادا وقصص. مازال بيت بولاد على حاله يحمل لعنته ولا أظن حسم أمره بعد تسفيرهم أو حتى بعد 2003، فالبيت ببابه القديم وسوره المتداعي تطوقه الأحراش الوحشية، يسكنه ويتركه عابرو سبيل وناكرو حقوق وعاثرو حظ، بيت ملعون، توقفت ساعته وتبعثر وقتها وأكلت عقاربها أص


مشاهدات 79
الكاتب كامل عبدالرحيم
أضيف 2025/05/24 - 4:22 PM
آخر تحديث 2025/05/25 - 10:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 531 الشهر 32319 الكلي 11026323
الوقت الآن
الأحد 2025/5/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير