الإمتحان الوزاري تحت الحصار الرقمي
نوفل مؤيد الحياني
في كل عام، ومع اقتراب موعد الامتحانات الوزارية في العراق، يتهيأ الطلبة لخوض اختبار مصيري، فيما تستعد الحكومة لاختبار من نوع آخر، يضع حرية الاتصال وحقوق المواطنين على المحك. فقد اعتادت وزارة الاتصالات، استجابة لطلب وزارة التربية، قطع خدمة الإنترنت يوميًا خلال فترة الامتحانات من الساعة السادسة صباحًا وحتى الثامنة صباحًا، تحت ذريعة منع تسريب الأسئلة ومنع الغش الإلكتروني.
ورغم أن هذه الإجراءات تأتي بدافع حماية نزاهة العملية التربوية، إلا أن آثارها تمتد إلى عمق الحياة اليومية للمواطن العراقي، بل وتطرح أسئلة دستورية وقانونية جوهرية: هل من حق الحكومة قطع الإنترنت دون غطاء قانوني صريح؟ وهل يحق لها أن تعاقب ملايين المواطنين بجريرة فئة قليلة تمتهن الغش؟
دستور عراقي
أولًا: الإنترنت كحق دستوري
يُعد الاتصال بالإنترنت من الحقوق الأساسية في العصر الحديث، ويمثل أحد أوجه حرية التعبير وتداول المعلومات، وهو حق مكفول بموجب المادة (38) من الدستور العراقي التي تنص على حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. كما تنص المادة (40) على أن «حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والإلكترونية والهاتفية مكفولة، ولا يجوز مراقبتها أو التنصت عليها أو الكشف عنها إلا لضرورة قانونية وبقرار قضائي».
وبالرجوع إلى القاعدة الدستورية، فإن أي تقييد لهذه الحقوق يجب أن يصدر بقانون، لا عبر أوامر إدارية أو مخاطبات بين الوزارات. وهنا تكمن الإشكالية الكبرى: إن قرار قطع الإنترنت يُتخذ إداريًا دون أي أساس تشريعي أو تفويض قانوني، مما يجعله مشوبًا بشبهة عدم المشروعية.
ثانيًا: مخالفة الالتزامات الدولية
بما أن العراق طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فقد ألزم نفسه باحترام الحق في الوصول إلى المعلومات ووسائل التعبير. ووفقًا لتوصيات الأمم المتحدة، فإن قطع الإنترنت الجماعي يُعد انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان، ولا يجوز اللجوء إليه إلا في حالات الضرورة القصوى وبقرار قضائي مسبب، وهو ما لا ينطبق على حالات الامتحانات.
ثالثًا: الخسائر المجتمعية والاقتصادية
لا تقتصر آثار قطع الإنترنت على الجانب التربوي، بل تمتد إلى تعطيل قطاعات كاملة، مثل:القطاع الخاص، وخاصة الشركات التقنية والخدمية.
العاملة عبر الإنترنت وطلبة الجامعات والدراسات العليا الذين يعتمدون على المنصات التعليميةمضافاً اليها المصارف والخدمات المالية التي تُدار إلكترونيًا.
ووفق تقديرات اقتصادية غير رسمية، فإن العراق يخسر يوميًا ملايين الدولارات جراء هذا الإجراء. كما يتسبب ذلك في تقويض ثقة المستثمرين والشركات الرقمية الناشئة، ما يعوق مسيرة التحول الرقمي التي تتحدث عنها الحكومة في برامجها الاستراتيجية.
رابعًا: غياب التوازن في المعالجة
من غير المنطقي أن تُعالج مشكلة الغش، التي تقع داخل مراكز امتحانية محددة، عبر قطع شامل للإنترنت عن جميع المواطنين. هذا الإجراء يعكس افتقارًا واضحًا لمبدأ التناسب، وهو أحد أهم المبادئ في القانون الإداري والدستوري، الذي يشترط أن تكون الوسائل المتخذة لمواجهة المخاطر متناسبة مع حجمها وخطرها.
كان الأجدر بالحكومة أن تعتمد على بدائل تقنية أقل ضررًا، مثل:
استخدام أجهزة تشويش الإشارة داخل القاعات فقط.
تعزيز الرقابة الإلكترونية ومتابعة خطوط الإنترنت في محيط المراكز الامتحانية.
تحسين كفاءة المراقبين، وتشديد العقوبات ضد من يسرب الأسئلة.
خامسًا: نحو تنظيم قانوني واضح
إن استمرار هذا النهج دون إطار قانوني يمثل فراغًا تشريعيًا ينبغي تداركه. يجب على مجلس النواب التدخل لوضع قانون ينظم حالات تقييد خدمات الإنترنت، على أن يكون القانون مستندًا إلى ضوابط صارمة، ويشترط وجود قرار قضائي مسبب، ويراعي مبدأي الضرورة والتناسب.
إن الامتحانات الوزارية تمثل تحديًا تربويًا، ولكن تحويلها إلى مبرر دائم لانتهاك الحقوق الرقمية هو خطر لا يجب تجاهله. فالدولة التي تخشى الغش أكثر مما تحترم دستورها، تفقد تدريجيًا شرعيتها أمام مواطنيها.
الامتحان الوزاري تحت الحصار الرقمي، والمواطن العراقي بين مطرقة سوء الإدارة وسندان التراجع الرقمي. آن الأوان أن يُرفع هذا الحصار، ويُستبدل بعقلانية قانونية تحفظ الدولة وتحترم الإنسان.