العراق في مرآة الجيوبوليتيك
منتصر صباح الحسناوي
في امتحان "الكورسات" التحضيرية للدكتوراه عام 2019، وجّه إليَّ أستاذي، الدكتور مجيد البدري ، أستاذ الجغرافية السياسية، سؤالاً ظلّ حياً في ذهني حتى اليوم:
“هل تعتقد أن روسيا ستسحب نفوذها من سوريا؟”
كان جوابي حينها: “لا، من المستحيل ذلك على الأقل في السنوات القريبة، فروسيا موجودة لحماية مصالحها في المياه الدافئة، ولن تتخلى عن نقطة تمركزها الإستراتيجي مقابل النفوذ الأميركي، ناهيك عن استخدامها سوريا كورقة ضغط تجاه تركيا.”
اليوم، ورغم أن الروس لا يزالون ميدانياً في سوريا، إلا أن الخريطة الجيوبوليتيكية لم تعد كما كانت وكل السيناريوهات باتت واردة، بما فيها تلك التي كنا نعدّها مستبعدة.
هذا التغيّر في خرائط النفوذ يفتح باباً واسعاً للتأمل في موقع العراق، الذي يقف بدوره عند مفترقٍ إستراتيجيٍ دقيق، وسط محاور تتنازع وتتحالف وتنهار وتُبعث من جديد.
عند النظر إلى خارطة الشرق الأوسط اليوم، سنجدُ العراق يمثل منطقةً محوريةً في كلّ مشروعٍ سياسيٍ أو اقتصاديٍ يرسم ملامح المنطقة، فالعراق، الذي خرج من سنوات الاستبداد والاحتلال بانقسامٍ داخليٍ ومجتمعٍ مثقلٍ بالهويات الفرعية، يحاول أن يُعيد بناء نفسه كدولةٍ تمتلك رؤيةً بعيداً عن إرادات الآخرين.
وهذا ما جعله بعيداً عن انتماءات المحاور الإقليمية على الرغم من انخراطه الجزئي مع الجميع.
فهو على علاقة خاصة ومعقدة مع إيران، ودور لا يمكن تجاهله للولايات المتحدة في الوقت ذاته يتحرك بين محور (مصر، السعودية، الأردن) ومحور (تركيا، قطر، سوريا) ، هذه التعددية قد تبدو “مرونة استراتيجية”، لكنها تعني في بعض جوانبها غياب "هوية سياسية" واضحة.
في السنوات الأخيرة، حاول العراق كسر هذه الحلقة عبر مشاريع كبرى، أبرزها طريق التنمية، الذي يربط الخليج بتركيا وأوروبا، عبر شبكةِ نقلٍ وسككٍ حديدية تنطلق من ميناء الفاو،هذا الطريق يحمل بعداً اقتصادياً ويسعى ليكون ورقة العراق في معادلة التوازنات الإقليمية، بعيداً عن الاستقطاب ومعه يسعى العراق لاستثمار سوق النفط كمورد لتعزيز الريع ولبناء شراكات استراتيجية تحمي استقلال قراره فضلاً عن تنمية الصناعات والانتاج المحلي.
لكن المسألة" الجيوبوليتيكية" ليست مجرد مشاريع فهي تتعلق أيضاً بموقف الدولة من القضايا الكبرى:
من التطبيع مع إسرائيل مثلاً، إذ ما زال العراق متمسكاً بموقفه المبدئي الرافض في وقت هرولت فيه بعض العواصم نحو تسوياتٍ تحت عناوين مختلفة.
وتتعلق أيضاً بكيفية التعاطي مع الأزمات الإقليمية: من الحرب في غزة، إلى لبنان وسوريا واليمن والسودان، حيث يبدو العراق معتدلاً بقراراته دون أن يقف على الحياد.
أما العلاقة مع الولايات المتحدة فهي قصة أخرى من التردد والتجاذب. فالعراق لا يستطيع القطيعة مع واشنطن ولا يملك رفاهية الانخراط الكامل في محورها، خاصة في ظل ما تريده أميركا الآن لمنظومة إقليمية تنسجم مع أولوياتها في التطبيع والطاقة والمد الاقتصادي.
وبين هذه الخطوط المتقاطعة تبقى الهوية السياسية للعراق قيد التشّكل.
هل سيكون دولةَ توازنٍ ذكية، أم ساحةً لمحاور متنازعة؟
هل يُعيد بناء قراره على أساس المصلحة الوطنية وحدها أم يستمر في التكيّف المرحلي؟
الإجابة ليست بسيطة لكنها تبدأ من الاعتراف بأن "الجيوبوليتيكية" ليس قدَراً وإنما إدارة واعية للموقع والمصالح.
وأن العراق، إن أراد أن يتحوّل من “ممر للصراعات” إلى “جسر للتسويات”، عليه أن يصنع قراره السيادي لا أن يكتفي بموازنة الضغوط.
لقد أظهر العراق في العامين الأخيرين قدرةً على التحرك المتوازن وسط أزمات إقليمية حادّة، فحافظ على أمنه الداخلي، ورفع من وتيرة التنمية، دون أن ينجرّ إلى النزاعات الكبرى.
يبقى السؤال: هل ستتحوّل هذه السياسة إلى نهجٍ دائم؟
أم أن صراع المحاور سيجرّ العراق مجدداً إلى منطقة الانفعال؟
السياسة لا تعرف الثبات، لكن المنتصر فيها هو من يُحسن إدارة التقلّبات ليحصد الخير لشعبه.