نهاية حياد الدول.. العالم بين الليبرالية والإستبداد
محمد عبد الجبار الشبوط
في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، يشهد العالم اليوم انقسامًا متجددًا بين معسكرين رئيسيين:
• المعسكر الليبرالي الديمقراطي، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها.
• المعسكر الأوتوقراطي الاستبدادي بقيادة الصين وروسيا.
هذا الانقسام يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، لكنه يختلف عنها في أن معظم الدول تجد نفسها مضطرة للانحياز إلى أحد المعسكرين، مما يقلص من مساحة الحياد السياسي.
1. تآكل مفهوم «عدم الانحياز»:
ظهرت حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة كتيار محايد يضم الدول النامية التي رفضت الانحياز لأي من المعسكرين الغربي أو الشرقي. إلا أن النظام الدولي الحالي، الذي يتميز بتعدد الأقطاب وتداخل المصالح، جعل من الصعب على الدول الحفاظ على حيادها السابق.
هذا الانقسام يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، لكنه يتميز بواقع جديد: لم يعد هناك مكان لدول «عدم الانحياز» بالمفهوم الكلاسيكي. الجميع اليوم - طوعًا أو اضطرارًا - منحاز، أو مضطر للانحياز.
يبدو اليوم مفهوم «عدم الانحياز» هشًا أمام التحولات العالمية.
2. شعار «لا شرقية ولا غربية»: بين الماضي والحاضر:
كان شعار «لا شرقية ولا غربية» يعبر عن رغبة بعض الدول في اتباع سياسة مستقلة عن القوى العظمى. لكن في الواقع الحالي، تجد هذه الدول نفسها مضطرة للتعامل مع القوى الكبرى لتحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية، مما يجعل من الصعب الحفاظ على هذا الشعار عمليًا.
تبنت الثورة الاسلامية الايرانية بقيادة الامام الخميني هذا الشعار، لكنه اصبح بلا مضمون بسبب التحولات العالمية الاخيرة.
لم يعد هذا الشعار قابلًا للتطبيق في ظل الواقع السياسي والاقتصادي المعولم، حيث تتشابك المصالح والتحالفات بشكل لا يسمح بالحياد المطلق.
من هذا المنبر، وباسم قيم العدالة وحرية الشعوب، يمكن توجيه دعوة صادقة إلى إيران أن تنحاز - في الداخل والخارج - إلى معسكر الديمقراطية لا الاستبداد.
إيران، في أصل ثورتها عام 1979، كانت انتفاضة شعبية ضد الاستبداد، وضد تغوّل السلطة الأمنية والفساد. واليوم، إذا أرادت أن تستعيد بريق ثورتها الأخلاقي، فعليها أن تتبنى:
شعوب مظلومة
- ديمقراطية حقيقية في الداخل تقوم على سيادة القانون، احترام التعددية، وضمان الحريات العامة.
- سياسة خارجية عقلانية تقف إلى جانب الشعوب المظلومة لا الأنظمة القامعة، وتبتعد عن المحاور الأوتوقراطية التي تقمع شعوبها.
إن استثمار القيم القرآنية لا يعني التحالف مع المستبدين، بل الوقوف في صف العدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
3. دول الجنوب: بين التحوط والانحياز
تحاول العديد من دول الجنوب، مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، اتباع سياسات خارجية مرنة توازن بين مصالحها مع المعسكرين. إلا أن الضغوط الاقتصادية والسياسية تجعل من الصعب الحفاظ على هذا التوازن، مما يدفع بعض هذه الدول إلى اتخاذ مواقف أقرب إلى أحد المعسكرين.
4. إسرائيل: الديمقراطية المزعومة
في هذا العالم المنقسم، تظهر إسرائيل وكأنها «الاستثناء الشاذ» أو *the odd man out*. فهي تروّج لنفسها كدولة ديمقراطية، لكنها تمارس سياسات تتنافى مع مبادئ الديمقراطية:
- التمييز ضد المواطنين العرب داخل إسرائيل: يواجه المواطنون العرب في إسرائيل تمييزًا ممنهجًا في مجالات متعددة، مثل التعليم، والإسكان، والتوظيف، مما يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية.
- انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة: تمارس إسرائيل سياسات قمعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تشمل الاعتقالات التعسفية، واستخدام القوة المفرطة، وهدم المنازل، مما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان.
هذه السياسات تتناقض مع القيم الديمقراطية التي تدّعي إسرائيل الالتزام بها، مما يضعها في موقع يتعارض مع المعسكر الليبرالي الديمقراطي الذي تنتمي إليه ظاهريًا.
هذه الازدواجية تضعها في موقع أخلاقي ملتبس، وتحد من قدرتها على تمثيل القيم الليبرالية التي تزعم تبنيها.
خاتمة
يواجه العالم اليوم تحديًا كبيرًا في الحفاظ على التوازن بين القوى الكبرى، مع تراجع مساحة الحياد السياسي. في هذا السياق، تحتاج الدول إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتيح لها الحفاظ على استقلاليتها وتحقيق مصالحها الوطنية في ظل النظام الدولي المتغير.
العالم يعود للانقسام، ولكن دون رمادية.
إما أن تكون مع الديمقراطية – كقيمة وكممارسة – أو مع الاستبداد، سواء كان مغلفًا بالشعارات الدينية أو بالشعارات القومية.
إن حياد الدول لم يعد خيارًا استراتيجيًا واقعيًا، بل أصبح في كثير من الأحيان شكلًا من أشكال العجز أو التواطؤ.
والأمم الحية، لا تقف في الظلال!