الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
"ذاكرة للنسيان.. فيلم يداوي الأعطاب الراسخة في عقلية المجتمع


"ذاكرة للنسيان.. فيلم يداوي الأعطاب الراسخة في عقلية المجتمع

زهير فخري

 

- 1

“ذاكرة للنسيان” شريط سينمائي قصير (من ثلاث وعشرين دقيقة)، صوره المخرج المغربي الهواري غباري في مطلع 2023، فيما كتبت سيناريو الفيلم، بالاشتراك مع المخرج، السيناريست كريمة الحايك.

يتحرك أبطال الفيلم في مربع منسي من المغرب العميق، تحكمه مواضعات مجتمعية بائدة، ويرزح سكانه تحت استبداد الخوف من سلطة مجتمع يحتفظ ب"الأسرار"، ويرى إفشاءها جرما له ما بعده، باعتبار ذلك تجرؤا على طابوهات تواطأ الجميع على عدم الاقتراب منها وأحاطوها بالصمت.

تجري أحداث الفيلم بهذا المربع الصغير "النموذجي" تحت عدستين إذا جاز القول، عدسة مخرج حقيقي هو الهواري غباري وعدسة مخرجة افتراضية هي(مريم) التي لعبت دور البطولة في الفيلم والتي لها هي الأخرى داخل الفيلم أبطالها ورؤيتها وموضوعاتها وصيغ طرحها لهذه الموضوعات. وقد جسدت هذا الدور الممثلة المغربية نجاة الوافي. وإذن، يدعو هذا الفيلم المشاهد إلى رؤية عالمه من زاويتين أساسيتين للمعالجة، الواحدة منهما تسند الأخرى: زاوية رؤية المخرج (الهواري غباري)، وزاوية نظر (مريم)، بطلة الفيلم أو، على الأصح، واحدة من أبطال الفيلم، وهي تقنية اهتدى إليها المخرج ليعزز بها (وهذا أحد التآويل الممكنة) وجهة نظره إزاء موضوعاته ويؤكدها أو ربما هي حيلة أراد بها أن ينتصر لوجهة نظر جريئة إزاء محرمات كثيرة راسخة في مفاصل المجتمع المغربي. وإني لأراه قد استثمر هذه الحيلة الفنية بذكاء، إذ ترك أمر تبني موضوعات الفيلم والتحكم في بنيته الفنية وفي سياقه والتصرف في مصائر أبطاله لمخرجته الافتراضية (مريم)، التي وثق فيها مثلما وثق فيها البطل (كمال) الذي لعب دور منتج فيلمها، وهو الدور الذي جسده الممثل كريم بولمال، والذي رافقها في كل مراحل التصوير. هذه نقطة تبدو، ظاهريا، شكلية لكنها تظل داعمة لأساس الفيلم وغير منفصلة عن بنيته المضمونية.

-2

يفتح الفيلم عين المشاهد في المشهد الأول على سيارة في طريق مترب من مكان قصي ومنسي حيث لا وجود لأي مظهر من مظاهر التمدن، وعلى متنها البطلة - المخرجة الافتراضية (مريم) ومنتج فيلمها (كمال). وقد آمن الأخير (بعد تردد) باختيار المخرجة لهذا المكان البعيد، باعتباره المكان الأمثل لقصتها. في هذا المكان المهمل يكمن السر، السر الذي ستوثقه مريم وتجهر به كمخرجة افتراضية في "فيلمها"، ثم إنها، كما أعلنت للمنتج، (دائما داخل الفيلم) معنية بروح هذا المكان، ومن هنا تشبثها به ورهانها على إيقاظ أصحابه وتحريرعقولهم من بعض أشكال الوعي الزائف.

 تتحرك السيارة من جديد وتتوغل في عمق هذه الأرض اليباب لتبدأ القصة التي أريد لها أن تظل مضمرة ومسكوتا عنها بين سكان هذا المكان. تبدأ أول خطوة لإماطة اللثام عن هذا المسكوت عنه بالتقاط صورة. الصورة لمسجد وصومعة، وما يستتبعها من صور سيكسر أفق انتظار المشاهد. هكذا وبدون ثرثرة تنقل (مريم) مُشاهدها من صورة لما اعتاد الناس أن يروه "مقدسا" وهي الصورة الظاهرية للمسجد، إلى صورة المسجد ذاته الباطنية، حيث يصير "المقدس" "مدنسا"، بعدما رصدت عدسة البطلة سلوكا مَرضيا لفقيه يعنف نفرا من الأطفال بدون سبب (أو على الأصح بسبب ما ستفضحه الصورة)، ثم يطردهم من المكان ليستفرد بفتاة قاصر ويغلِّق الباب. بعدها يظهر في مشهد موال طالبا من المخرجة، في احتجاج خجول، أن تلتقط صورها بعيدا عن المكان، فيما الأخيرة، كما لو في دفاع عن حياد آلة التصوير، ترد بأن الكاميرا تفعل فعلها دون زيادة أو نقصان. وكأني بها تقول للفقيه (الذي جسد دوره الممثل جمال العبابسي، والذي لم يعين بأي اسم في الفيلم، وهذا له أكثر من معنى): "نحن لا نفتري على أحد، ولن نزيد شيئا على ما فعلته أيها الفقيه التقي أو ننقص منه"، وهو ما يؤكد أن تعرية واقع أريد له أن يظل مضمرا، هو من صميم عملها الذي لن تحيد عنه. ثم غادرت مريم وعيناها تتفحصان الصور المترادفة في آلة التصوير. وبغير كثير من الكلام، تتوالى الصور والمشاهد التي تصب في المنحى ذاته، المنحى الذي يجرؤ على هدم حائط الصمت وتحرير المجتمع من ربقة الطابو وأغلاله. فالصور والمشاهد الموالية تقترح ذاتها على المشاهد عارية من سريتها، حيث تنقلنا (مريم) إلى مظهر آخر من مظاهر بؤس عاداتنا بعدما رصدت في هذه "الأرض اليباب" أربعة رجال، بوجوه واجمة، يرفعون على أكتافهم امرأة حاملا في مرحلة مخاض، ثم أودعوها بيتا طينيا متهالكا تحت رحمة القابلة (المولدة)، (وكان بالإمكان نقلها إلى المستشفى لولا تنطعهم، فالعادة لا تقبل أن يكشف طبيب رجل على جسد امرأة!). بعد آخر صرخة للمرأة الحامل تسمع زغرودة يتيمة دليلا على أن المولود أنثى، وستتحمل المرأة  (كما في كل المجتمعات الذكورية) تبعات هذا "الوزر العظيم"!. تتتابع المتواليات المشهدية التي ترسخ بؤس هذه العقلية البائدة إذ تدخلنا البطلة مريم إلى بيت واطئ لأحد "الأولياء الصالحين" حيث يطلع صوت رجالي شجي (من وراء حجاب) يستفسر المرأة النفساء عن سر ضيمها وبكائها، ثم يوصيها بمسلك سحري عليها أن تجتازه كي تفيض عليها بركته بالذكور وتتخلص هي وزوجها من كوابيس إنجاب الإناث! تفعل ما أمرت به: تستحم في الواد وتنشر ملابسها على فروع الشجرة، أما الذبيحة فقد قدمتها قربانا للولي الصالح من قبل دون أن تسفر عن شيء كما قالت. تباشر البطلة  مريم بعد ذلك عملها كشاهدة على هذا العطب الراسخ في عقلية المجتمع، فتلتقط صورا للشجرة وعليها ملابس داخلية نسائية وضمنها ملابس المرأة النفساء. تدخل البطلة المخرجة بيتا عتيقا (في تأويلٍ هو بيت أهلها القديم) وتقصد دولابا عتيقا وتنفض الغبار عن آلة لتكبير الصور وتشرع في مشاهدة الصور بداخلها في استعادة لماضي طفولتها كما لو أن ما حدث اليوم (ووثقته في الفيلم) كان حدث بالأمس للمخرجة ذاتها ويحدث باستمرار حتى ليبدو أن ما رصدته (مريم) وتعقبته هو شريط حياتها الحقيقي الذي أوعزت لعب البطولته فيه إلى الطفلة التي ظهرت بدون  اسم. وكان هذا المشهد مستعادا بالحذافير تقريبا. وهناك قرائن أخرى في الفيلم تعزز هذه الخلاصة.

وقد يكون المخرج الهواري غباري تقصد هذه التقنية المبدعة حتى نرى إلى موضوعه كأنه شهادة حية وصادقة عن مظاهر القهر والحيف تجاه المرأة (وضمنها إكراه القاصرات على الزواج) عاشتها فعلا البطلة مريم، وعاشتها الطفلة التي كانتها والتي انتفضت في عز حفل زفافها الذي أكرهت عليه، وانطلقت في اتجاه رحابة الحياة بعيدا عن معقل آلامها، وهي بهذه الانتفاضة استطاعت أن تنحت لنفسها اسما به حققت ذاتها بعدما كانت نكرة، بدون اسم، مثل غيرها من أهل (الدوار). لقد صار اسمها مريم (وهذه إحدى القراءات) وباتت مخرجة سينمائية  قادرة على التعبير عن ذاتها وعن الذات الجماعية وعلى قول الحقيقة بكل جرأة.

فيلم "ذاكرة للنسيان" للمخرج والشاعر الهواري غباري فيلم قصير يلامس، شأن كل أفلامه القصيرة، قضايا مسكوتا عنها ومرسخة كطابوهات محاطة بالكتمان في المجتمع المغربي. ثم إنه يقترح، في فيلمه الأخير، مخارج ثورية (إن جاز القول) ضدا على كل مظاهر القهر والاستعباد التي ترهن مصير المرأة المغربية؛ إذ بمغامرة الطفلة (البطلة) وبتمردها وشجاعتها استطاعت أن تخرج من "وجودها بالقوة" إلى "وجودها بالفعل"، ولولا ذلك لراوحت مكانها وأبَّدت واقعها البئيس. وقد كان هذا الحل الجذري قصدية فيلم "ذاكرة للنسيان".

(المغرب النرويج)

 


مشاهدات 134
الكاتب زهير فخري
أضيف 2025/03/23 - 3:23 PM
آخر تحديث 2025/03/26 - 8:19 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 285 الشهر 15596 الكلي 10576545
الوقت الآن
الأربعاء 2025/3/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير