صيانة الديمقراطية.. الممانعة الحضارية في وجه التخريب السياسي
محمد علي الحيدري
ليست الديمقراطية مجرد صناديق اقتراع، بل منظومة قيم وإجراءات ومؤسسات تستند إلى مبدأ أساسي قوامه احترام الإرادة العامة، وسيادة القانون، وتكافؤ الفرص في الوصول إلى السلطة وممارستها ضمن حدود الشرعية. ومن هنا، فإن أحد أبرز اختبارات عراقة التجربة الديمقراطية هو قدرتها الذاتية على حماية نفسها من محاولات التخريب، خاصة تلك التي تتم من الداخل عبر أدوات تبدو شرعية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها تهديدًا مباشرًا لبنية الديمقراطية ومضمونها.
إن أخطر ما يهدد الديمقراطيات الراسخة ليس التحدي الخارجي، بل سوء استخدام آلياتها من قِبل قوى المال السياسي، أو جماعات السلطة والنفوذ التي تسعى إلى توظيف القواعد الديمقراطية لتحقيق مصالح ضيقة، أو لإعادة إنتاج الهيمنة، أو لتطويع المؤسسات لمآربها. وحين يحدث ذلك، تتعرض الديمقراطية لتشويه مزدوج: في صورتها أمام الناس، وفي جوهرها كمفهوم وممارسة. وهنا تبرز ضرورة وجود “ممانعة حضارية” لهذا التخريب، تكون أدواتها نفسها ديمقراطية، وأخلاقياتها منسجمة مع روح النظام الذي تسعى لحمايته.
القضاء النزيه المستقل هو خط الدفاع الأول؛ إذ يمنح الديمقراطية مناعتها القانونية، ويحول دون تزييف إرادة الشعب أو انتهاك حقوقه. أما الإعلام، فهو ليس مجرد ناقل للأخبار، بل سلطة رقابية توعوية قادرة على فضح التجاوزات، وكشف التلاعب، وتنبيه الرأي العام إلى الأخطار التي تحيط بديمقراطيته. والمعارضة السياسية، بوصفها جزءًا من بنية النظام الديمقراطي لا خروجًا عليه، تتحمل مسؤولية مضاعفة في فضح الفساد، وتقديم البدائل، وتعزيز الوعي السياسي الذي يحول دون انزلاق المجتمع نحو الاستبداد المموّه.
وفي السياق ذاته، يلعب تحريك الرأي العام، سلميًا وواعيًا، دورًا حيويًا في ردع مَن يحاول توظيف أدوات الديمقراطية للإضرار بها. إذ لا شيء يمنح الشرعية إلا الشعب، ولا أحد يحميها سواه. ومن ثم، فإن وعي المواطنين، وقدرتهم على التمييز، وممارستهم النقد البناء، هي عناصر أساسية في صيانة الديمقراطية من الداخل.
وليس من قبيل المبالغة القول إن تحديات المال السياسي وسوء استخدام السلطة لم تعد حكرًا على الديمقراطيات الناشئة، بل باتت تتسلل — في صور متنوعة — إلى صلب بعض أعرق الديمقراطيات التي طالما قُدّمت كنماذج يُحتذى بها. ويكفي أن نُمعن النظر في المشهد السياسي لبعض هذه الدول لنلحظ كيف يمكن لرؤوس الأموال الكبرى أن تؤثر في صناعة القرار، وكيف أن النفوذ قد يُستخدم أحيانًا لتقويض التوازن المفترض بين السلطات.
وسائل ديمقراطية
لكن الفارق الجوهري يكمن في كيفية استجابة تلك الأنظمة لهذه التحديات؛ فكلما كانت مؤسساتها قادرة على كشف الخلل والتصدي له بوسائل ديمقراطية، دون الانزلاق إلى تبرير الفساد أو تغطيته، كلما أثبتت عراقتها وصلابتها. ومن هنا، فإن أي مجتمع لا يُختبر فقط بوجود التحديات، بل بقدرته على مواجهتها دون التفريط بقيمه.
كلما واجهت الديمقراطيات محاولات التخريب بأساليب ديمقراطية، ازدادت قوةً ونضجًا، وتحوّلت من شكل إجرائي إلى ثقافة راسخة وعميقة. وعندئذ، لا يمكن للمال أن يشتري الإرادة، ولا للسلطة أن تُحكم بالإكراه، ولا للمصالح أن تتغلب على الحق العام. فالديمقراطية ليست معصومة من الخلل، لكنها تملك، في تجاربها العريقة، أدوات ذاتية لإصلاح مسارها، بشرط أن يتحمل الجميع مسؤولية الدفاع عنها… من داخلها.