مجرد كلام
محمد زكي ابراهيم
أكاد أؤمن بما يشبه اليقين، أننا في بلادنا هذه، نعاني من تخمة اسمها النقد الأدبي، وأن لدينا مقابل كل مؤلف عدداً غير محدود من النقاد، ومهمة هؤلاء في الغالب الثناء على الكاتب، وكيل المديح له، وأحياناً قليلة، الغمز من قناته، والإشارة إلى نقاط ضعفه.
وبالطبع فإن المؤلفين يشعرون بالارتياح الشديد لوجود أشخاص يستخدمون لغة اصطلاحية، ومفردات غربية، للإشادة بإنجازهم الفكري، وقد يتضايقون قليلاً من عبارات تتصف بشيء من الغرابة، لكنهم يدركون أن مثل هذا الأمر يصب في مصلحتهم نهاية المطاف.
ولأنني لست معنياً كثيراً بهذه التفاصيل، فإنني أرى الأمور بشكل مختلف، وأعتقد أن هناك خطأ ما في الموضوع، فقد كان من الطبيعي أن يكون لدينا نقاد قليلون ومؤلفون كثر، لا العكس، ذلك أن التأليف هو عملية خلق، تستهلك الكثير من الوقت والجهد، وتستلزم الموهبة والمثابرة، أما النقد فهو عملية قراءة متأنية، وتقص، وتحليل، لنصوص جاهزة.
ما ينطبق على الأدب ينطبق أيضاً على مجالات الحياة الأخرى. ففي السياسة يتكرر عندنا الشيء ذاته.
إن مئات المنظمات والجمعيات والأحزاب، تصدر كل يوم ما لا يحصى من التصريحات، وتعقد ما لا حصر له من الاجتماعات، لكنها لا تقيم حقاً ولا تزهق باطلاً، ولا تغير من الواقع شيئاً، أما الذين يعتنقون النظريات والأفكار والمذاهب الاجتماعية، فهم في الغالب، لا يؤدون ما تفرضه عليهم من قيم وسلوك، ويكتفون بالدفاع عنها في وسائل الإعلام، مع أن العمل هو أفضل ما تحصل عليه من دعاية.
ومثل هذا ما تصدره جمعية الأمم المتحدة من قرارات لا أول لها ولا آخر في نزاعات ومناطق توتر دولية كل يوم، فلا أحد يكترث لها إلا في ما ندر، وتجربتنا معها نحن العرب لا تحتاج إلى بيان.
لقد دعمتنا هذه الجمعية بمئات القرارات التي لم تر النور، لأنها غير ملزمة للغير، ولم تتحول إلى واقع ملموس، وبقيت مجرد كلام، أو حبراً على ورق، ولم تفعل المنظمات التابعة لها سوى الأمر ذاته، فلا أحد يستطيع أن يحصي قرارات منظمات حقوق الإنسان والطفولة وحماية البيئة والأغذية والزراعة واليونسكو، ولا أحد يتذكر عدد المؤتمرات والندوات والاجتماعات التي عقدتها، فكل ما يصدر عنها مجرد توصيات لا تنفع ولا تضر.
ولا شك أن الكلام لوحده مهما كان جميلاً لا يقود إلى نتيجة، وهذا هو ما كان يحدث لقرون طويلة في الماضي، يوم كانت العلوم النظرية مثل الجدل والمنطق والفلسفة تهيمن على مجالات البحث في الدول المتحضرة، وكانت الحلقات الدراسية تنقلها من جيل إلى جيل، وتضيف لها الشيء الكثير من الشرح والتعديل، لكنها لم تستطع أن تغير من أحوال المجتمعات الإنسانية شيئاً، ولم تخفف عنها عبء الجهد العضلي والمعاناة الجسدية والصحية، إلا بعد أن دخلت التجربة على الخط، وشرعت الأفكار المجردة بالتحول إلى واقع عملي، وغدت آلات ومكائن وعُدداً، ولم تلبث أن بدأت تغل أموالاً وذهباً، وتقلب حياة الشعوب رأساً على عقب.
إن أي مجتمع من المجتمعات يحتاج إلى طاقة وموارد طبيعية، لكنها جميعاً لا يمكن أن تؤدي دورها في خدمة الإنسان ما لم تقترن بالعمل، فلا يكفي أن يكون هناك نفط ومعادن وماء وأراض زراعية، دون وجود أيد عاملة مدربة ماهرة.
هل علينا أن نقول أننا في بلاد العرب مازلنا نعيش في عصر الكلام المنمق المعسول، الذي لا يحمل أي مقومات التغيير، وأن علينا أن نتعلم كيف ننتج ونبدع ونشقى، بدلاً من أن ننشغل بالفلسفة والتنظير؟ .