أبي وكاتب العرائض
وليد عبد الحسين جبر
بين حين وآخر أعضّ إصبع الندم أنني خسرتُ تسجيل أحاديث أبي صوتا وصورة وهو الذي عاش بيننا على الأقل عشر سنوات وفي يد كل منا جهاز هاتف حديث قادر على تصويره ، ربما لأننا كنا لا نريد أن نصّدق حقيقة أن أبينا سيغادرنا ذات يوم شئنا أم أبينا ورغبة في أن نبقى أطفال نتمتع بحنو الأب رحنا نتغافل عن هذه الحقيقة واكتفينا بالتقاط بعض الصور له ، وكم خسرنا أحاديث مهمة كان يتلوها بيننا في المساء والمناسبات والأعياد وربما ننشغل عن الاستماع لها كاملة بمشاهدة التلفاز أو تصفح الهاتف وهذا لعمري اقسى الذكريات وأكبر الندم أن ننشغل بحضرة معلمنا الأكبر عنه!
أبي روائي عظيم لم تهيئ له الظروف كي يكمل تعليمه شأنه شأن أبناء جيله ويدخل عالم الكتاب والمعرفة وإلا لو توفرت له ذلك فإني متيقن لكان فارسا في باب من أبواب العلم كما صار فارسا في الزراعة والفلاحة وكانت مسكته للمحراث مليئة بالفن والحرفة والقوة وكنت أشاهد قيامه بفتح ساقية للماء من النهر أو غلقه بالطين «سجر « وكأنه يرسم لوحة جميلة بريشة فنان!
مهما بقيت أسرد ذكرياتي عن أبي لن أستطيع إنزالها على الورق أنها وجدانيات لا يشعر بها سوى من عاشها ، غير أنني أؤكد أن تقصيري في تسجيل أحاديث أبي مصّورة خسارة منيت بها ولن تعوض ابدا.
و لا ابالغ إذا قلت لكم أن جزءا كبيرا من ثقافتي يعود الفضل فيها إلى حكايات أبي رحمه الله التي كان يتحدث بها لنا منذ الصغر ويعيدها مرارا وتكرارا ولكن بسبب طريقة أدائها واختياره المناسب لها لم يصبنا الملل منها.
من هذه الحكايات التي تدل دلالة واضحة تأثر المجتمع العراقي حتى وقت متأخر بالإقطاع والفوارق الطبقية كان لأبي في بداية ثمانينات القرن الماضي مشكلة قانونية مع أحد وجهاء مدينة الصويرة الذي كان له سطوته آنذاك بسبب أمواله وأملاكه وكان له دار مهجور آيلة للسقوط مجاورة لدار ابي ووقع جزء كبير من سياجه على دارنا فخشية من سقوط الجزء الآخر وربما علينا ونحن أطفال نلعب بالقرب منه قام أبي بتهديم هذا الجزء المتبقي الآيل للسقوط أيضا ، فقدم هذا الغني شكوى ضد والدي وحينما علم أبي بذلك ذهب مباشرة إلى المحكمة كي يقدم طلب للقاضي أيضا ويشرح له الأمر إلا أنه حينما أراد تقديم الطلب وهو الذي حُرم من التعليم ولا يعرف القراءة والكتابة لم يقبل أي كاتب عرائض أن يكتب طلب له ضد هذا الرجل الغني خوفا من سطوته!
حتى حضر القاضي والمساح والموظف إلى موقع الدارين واكتشفا الأمر وأنصفا أبي برد طلب هذا الملياردير بأن سياجه هو آيل للسقوط ولا يتحمل أبي سقوطه أو تكاليف أعادته!
الآن والحمدلله قد تخلصنا من هذه الصنمية المجتمعية ويمكن مقاضاة الجميع سواء كانوا وجهاء أم مشايخ أم مؤسسات، رحمك الله يا أبي ورحم خصمك الذي كان يتقوى بأمواله واسمه الاجتماعي ولا عزاء لنا إلا استثمار ذاكرتنا واستذكار حكايات أبي التي كانت وستبقى دروسا لنا.
□ كاتب وحقوقي عراقي