الكائنات الحيوانية وقيمتها الدلالية / محاكاة الواقع وتصويره في مجموعة السلم / قصص قصيرة جدا
ايمان عبدالحسين
في البدء فيما اذا ما تناولنا قراءة موضوعا ما يرتبط بالقصة القصيرة جدا لا بد ان هناك اسئلة عديدة تتوالد في اذهاننا ابرزها السؤال القديم الجديد المتمثل بما هي ابرز الفروقات فيما بينها وبين القصة الطويلة؟، فمما لاشك فيه ان الاجابة عن هذا السؤال تم تناوله من قبل النقاد منذ اوائل انبثاقها ،منذ اخذت تستأثر باهتمام الكثير ، ذلك من ان بنيتها الأساسية لا تختلف كثيراً عن القصة الطويلة حتى وان اختلفت فإن الملامح العامة تظل ذاتها، ولكن هذا لا يمنع من كونهما شكلين يتميز كل منهما بمواصفات معينة وبتقنيات خاصة تتجلى ابرزها في سمة اساسية تتمثل بالحجم من حيث ان إبراز الحدث و الإحاطة بالموضوع في القصة القصيرة جدا لا بد من الكاتب الاستعانة باقل كلمات ممكنة،بمعنى اخر لا بد من الاعتماد على اسلوب أهم مايميّزه كثافته واختزاله ، وان الكاتب في سبيل فتح ذهن قارئه على أبعاد الموضوع الذي يريد طرحه وتكوين فكرة تعتمد على الحكائية الموجزة لموقف ما وان تكون واضحة ومقنعة لا بد ان يكون مدرك لأهمية اللغة ودورها في جذب القارىء بما تحمله من دلالات تغنيها وتبرز مقولتها الأساسية، كما ان اتسامها بخصائص تنماز على الاستعارة والمجازضمن بلاغة الانزياح جعلها اشبه برسائل تختزل بكلمات قليلة ، ولا بد من الاقرار بأن هذا النوع من القص ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، بل بالعكس انه نوع من الكتابة لها اسقطاتها ومحاذيرها فيما اذا لم يكن الكاتب متمكنا من اختيار ثيمة مناسبة يستطيع ان يؤسطرها في اسطر معدودة ويصل بها الى فكرة لها مصداقيتَها وحضورها في ذاكرة المتلقي الذي يكون الكاتب حريصا على نجاح توصيلها كونه يشكل ضماناً لنجاح عمله الابداعي ، وكما من الأهمية بمكان التذكير هنا بان القصة القصيرة جدا ان كانت ذا نفس قصيركما يدعي بعض الدارسين لما كان من الكاتب الكبير همنغواي ان يكتب قصة في بضع سطور،ولما تترجم فحوى ايمان تشيخوف بمقولة(ان تجيد الكتابة معناه ان تجيد الاختصار).
لن نتحدث بأستطالة هنا عن الفروقات فهو حديث يعرفه المهتمّون وتناولوه بالقراءة والتحليل كثيرا ولكن ما يهمنا هنا هو تناول قراءة مجموعة قصص قصيرة جدا للقاص حنون مجيد المعنونة (السلم )عن دار ضفاف للطباعة، قصص متنوعة لا تتفاوت كثيرا طولاً وقصراً اذ انها تتراوح بين السطرين والستة اسطر، وربما ان الكاتب كان يحاول عبرها ان يجرب انماط كتابية جديدة ومتنوعة قد استهوته ،كما اننا في هذه الفسحة المحدودة من القراءة سنحتكم إلى النُّصوص التي ثيمتها الاساسية تتشكل من عناصر يتم في تجسيدها كائنات حيوانية راى فيها القاص أنها نقاط استناد تدعم الثيمة القصصية وانها الكفيلة بإنتاج الدلالة الذي يستمد مادته المبنية على الحكمة ليصوغ منها نصا يبث فيه رؤيته الخاصة المعبرة عن موقفه مما يدور حوله، وذلك لأن جنس الحيوان يمكن أن يكون النموذج الذي يعول عليه تحقيق هذه الثيمة، لما يتوافر عليه من صفات .
انطلاقاً من هذا يضعنا القاص في هذه القصص امام ادوات فعل درامية فجاءت رغم قصرها محملة بالمعاني ، وان القاص الذي يعتبر ان الأدب نشاطاً إبداعياً جمالياً قائماً على التخييل جاء اختياره للحيوان بقصدية على النحو الذي يخدم الفكرة التي تبناها لما يحمله من مضامين و دلالات وعلامات متآلفة تحقق خطاباً قادراً على قراءة الواقع وتشخيصه وتكون لها فاعلية و مغزى تغني النص، وان اختيار الشخصية الحيوانية وانسنتها يستدعيها الكاتب ويؤهلها في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا كي يتمكن من خلالها اقناع القارىء الى الثيمة التي يريد طرحها.
استنادا لهذا إن النصوص التي وقع عليها اختيارنا كانت منتقاة بحسب الشروط التي تكفي لرصد هذا الجانب، اذن سنحاول الوقوف هنا عند بعض النماذج التي يتم من خلالها ابراز قضايا متنوعة يستلهم من الحيوان ما يجعله يرتقي به الى المنزلة التي تقربه من الانسان وتلمس جوانب دوره في عملية التصدي لكثير من الموضوعات المشيرة والدالة على أخطاء البنى الإجتماعية وانطوائها على غايات اخلاقية وتربوية ومضامين ناقدة كانت الاولوية والغلبة في مقدمتها لقيمة المشاركة والتحدي والتبذير ومفهوم الغربة و الحرية اضافة الى النزوعات التدميرية التي توقف القاص فيها عند وجه الارهاب المخيف مستعينا بالحيوان وسيلة لنقده ، وهكذا فان القاص الذي يجنح خياله رافضا كل واقع مؤلم يسعى إدخال الكائنات الحيوانية لتجسيد هذه القيم وتأخذ على عاتقها مهمة تشخيصها، ففي قصة مكتبتي يحاول ابراز اهتمامه بالجوانب التي ينهض عليها هذا النوع من القصص (في مكتبتي الاف الكتب ادخلها فتناديني جميعا اكثرها شغبا وخفة ذلك الذي تجوس بين صفحاته الكثر حكم الحيوانات)، كما نجد ان القصص المتحكمة في بنية نصها وفي تحديد دلالاته وخلفياته الى الحيوان الذي هو رمزا يؤسس الى المرموز اليه نستشفها في قصة ( الشهر العجيب) الذي نخلص فيه الى النتيجة التي يريد القاص الوصول اليها المتمثلة بالوعي من سوء المبالغة في التبذير وعدم ادراك الفقر، وهو يقع معظم أعبائه على كاهل المجتمع الذي لا يرحم وتقاليده الصارمة القاسية على الحيوان الذي هو الأكثر عرضة للموت والهلاك (تعجب ان تقطع طريقها منذ ايام فلا تجد من يطعمها ساعات النهار فتموء وتموء حتى يحل المساء عندئذ وقد تكون ماتت من الجوع تلقي الطعام منثورا على الارصفة وفي بطون الحاويات لو كانت تعي مما يدور حولها لوفرت على نفسها التجوال نهارا بين الدروب ولفعلت مثلما يفعل البشر في هذا الشهر العجيب) ،وفيما يتعلق بموضوعة المشاركة انتقى القاص شخصية الكلب في قصة (زميلي) التي يجمع فيها بين نمطين من الشخصيات الاول الانسان والثاني الحيوان ليجري معادلة فيما بينهما فالكاتب يصور الحيوان ليجسد من خلاله قيمة الصداقة انطلاقا من رؤية يأخذ فيها محاكاة الواقع وتصويره من قبل الكلب لانه يراه قادرا على خدمة ثيمة القصة فنيا وموضوعيا فانه حيوان يمتاز بالوفاء (التقف رغيف الخبز المصنوع من دقيق الرز واعجل قدمي فاصدقائي بانتظاري اقرب هؤلاء الذين يرافقونني حتى باب مدرستي القروية كلبي كلبي ذاك الذي لم يخلف وعدا معي اشركه في خبزتي قطعة كبيرة في فمه وقطعة صغيرة في فمي)، وايضا ان القاص الذي يواصل استلهام وتوظيف الحيوان مكتنزا اياه بدلالات سيمولوجية ينقل عبره حكمة وموعضة نجده ماثلا في قصة (الضرر العميم ) الذي يحاول طرح مادته من الواقع مسلطا الضوء على ابراز دور الارهاب في القضاء على الحياة وضعا يده على الجرح الذي اكتوى منه المجتمع، فهي جاءت بمثابة صرخة لما يجري من ظلم الارهاب وبطشه على الجميع بلا استثناء فلم يسلم منه حتى الحيوان ويبدوهنا أن مقت القاص وامتعاضه منه قد انعكس في هذه القصة ، التي نجد انها تحقق مقبوليتها عبر استخدام التحفيز الواقعي وذلك بتصوير الحكاية كأنها حدثت في الواقع ( الضرر الذي اصاب عمال الخدمات في ساحة الطيران كان شديدا ليحيل اجسادهم الى اشلاء ليس اقل ضررا منهم الطائر الذي فقد منقاره بشظية طائرة والاخر الذي فقد احد جناحيه باخرى مماثلة).
ومن الناحية الفنية جاء توظيفه في قصة (موقف الطير) من استخدام الميتاحكي اي جعل موضوع القصة متمثلة لتفكير الشخصية المتجسدة بالطير هنا وهو ما يطلق عليه التفكير في الحالة الذي نرى في القصة ان العلامة التي ترتبط بمدلول الحيوان تحول فيها من وحدة في جدول استبدالي إلى علامةً في نص، فصارت الوحدة دالاً يتحد مع مدلول الطائر/ الانسان ، وعن طريق هذا التباين والاختلاف الحاصل بين الانسان والحيوان يعمق البعد الدلالي للنص ويستكشف القارىء حقيقية ايمان القاص بان الحيوان هو اكثر فهما وتقديرا للامور من الانسان وهو ما يمكن ملاحظته بان هناك ثمة ميلاً غالباً لدى القاص إلى النظر إلى الحيوان على أنه طرف يقوم بفعل يتصف بالإيجابية والنظر إلى الانسان على أنه طرف سلبي (يحط على غصن اسفل الشجرة محتميا من مطر غزير من هناك يرى الناس سيرون الخطا هربا منه يقول لقد احتميت من المطر لان اجنحتي ثقلت ولم تعد ترفعني فما لهؤلاء مهرعون وهم بلا اجنحة يثقلها مطر اشك ان يكونوا عقلاء)،وايضا ان كل علامة تحملها قصة (الليل والنمرة) تتشكل من دال ومدلول تضافرتا معا في بوتقة واحدة لتحقيق الدلالة وإيصال الرسالة التي يحاول القاص تسليط الضوء فيها على مفهوم التحدي المتمثل: الصراع/ الهزيمة، (استجابت النمرة لدعوة الليل للصراع تحت ظل الشجرة العالية وعدت فوزه عليها اولا فوزا مبينا ولما تحدته للصراع ثانية تردد باديء الامر ثم رضخ لا صرارها فكانت هزيمته ما كان لنمرة فتية ان تعفل عن وهن الليل لما دعته للنزال ثالثة ليتقرر الفائز في الاخير لكنها لما اغمضت عينيها على طلب منه ليعود للنزال فات النمرة ان ترفع راسها للاعلى لتجد الليل ارتقى قمة الشجرة وتوارى هناك).
وان المؤلف في منطق المحمولات الدلالية في القصص يحركها بمنطق تنهض على رموز يحاول من خلالها تشكيل قواسم وملامح مشتركة بين الانسان والحيوان وأن القراءة المتفحصة لجوانب دور الحيوان يظهر عن دور إيجابي فاعل ومؤثر لايمكن إغفاله كما في قصة (وطن)( قالت الفراشة لاختها :صيف بغداد لاهب ردت الاخت وشتاؤها قارس سالت اتفكرين بالهجرة؟ اجابت كلا كررت لماذا؟ تابعت ذلك انه وطن)،و يتبدى واضحا من وراء قصة (اوزة) ان الحكمة التي يراد طرحها القاص تدورهنا حول اهمية الحرية ، والذي استطاع استلهامها عبر طائر الاوزة التي جاءت متجسدة بنص يجمع بين الانسان والحيوان ايضا (امسكت بطرف من خيطها واطلقتها للريح هناك وقد اتسعت ساحة اللعب افتلت اصابعها الخيط فتاهت في المدى البعيد ما كان لصغيرة تنفث حسرتها ان تفهم ان اوزة ان اطلقت من يد صاحبها تذهب ولا تعود).
وفي قصة الطاوس البشري يتركز المضمون و الدلالة التي تأتلف في تقابلات ثنائية لتكتسب دلالاتها من خلال الاستعانة بحيوان الطاوس لينكشف للقارىء من خلاله البعد الاخلاقي للبشر ( برغم جمال ريشه يعرف الطاووس موطن عيبه اما هو فقد وهبه الله عينين تائهتين في مجد كاذب/عظيم فيمشي مشية قرينه من دون ان يعرف عيبه).
كما يبدو ان الثنائية تتشكل في قصة(الغزال) ما بين ( الغزال / البئر ) وهما الرمزان الرئيسان في القصة التي يبدو فيها خصيصة الالتباس والخلخلة ظاهرة وذلك من خلال وقوف الغزال في مواجهة البئر ولكنها تكتشف في النهاية عدم ادراكها من حقيقية ما جرى للبئر، وهكذا نرى ان كل شيء لم ياتي في القصص اعتباطا انما له موقعه الخاص فيها (زعلت الغزالة على بئرها لانها حسبت موجة طرات عليه افعى جف البئر حزنا ثم لما عادت يوما وجدته يفيض بالماء لم تعرف الغزالة ان ما بدات تشرب منه هو دمعه وانه بريء مما نسب اليه ) .
وباقصى حد من التاثير وأقصى درجة من الايجاز تتمركز الوظيفة الأساسية للتواصل في نقل محتوى قصة( بشر) محولة العلامات اللغوية في بنية هذا النص إلى دلالات تكتسب مدلولات حاملة لارسالية نراها ماثلة في القصة تحيل على ضياع وتيه الانسان على الرغم مما يمتلكه من نعم، وبذلك تمكن القاص من توظيف الحيوان توظيفا يتلاءم مع ثيمة القصة كي يجعل القارىء يتفاعل معه محاولا الامساك بالخيط الذي يوصله من حكمة القصة التي يريد القاص توصيلها ( البوم لا يطير الا في الليل كما الخفاش ، للبوم عين وللخفاش بوصلة كما عين البوم دقيقة كذلك بوصلة الخفاش ولا غرو ان ضعنا بين عين البوم وبوصلة الخفاش فنحن بشر) .
وبنفس الرؤية كشفت قصة (الاسد) ان قيمها الدلالية تأتي من طبيعة الموضوع المتميز بالمغايرة فالقاص يخاطب نزعة البطش عند الانسان ومن المفارقة بان يكون الاسد هو الشاهد على هذه النزعة العدوانية ويأتي توجيه الاتهام ضد الانسان من قبله فتتحول المعادلة في هذه القصة الى صورتها العكسية ( لم يدرك الاسد ان الرصاصة التي اطلقت في الفضاء وهرب منها انما لغاية ان يمكث الصياد في الغابة ريثما يشوي صيده وياكله ولكن لم يفت على فطنة الاسد ان يتوارى خاف شجرة ليرى كيف يفترس الانسان فريسته).