مقاربة تشكيلية في رواية زمان الأبيض والأسود توارخ وتآريخ للأستاذ عبد الواحد المكني.
رضا الغالي
كتب "رولان بارت" ذات مرّة من سنة 1968 محتدّثا فيها عن نقلة النصّ من مؤلّفه الى المتلقّي القارئ، وقد نجيز القول في قوله هذا:" يولد النصّ حين يقرأه الآخرون"، بهذا المعنى يمكن اعتبار النصّ مشروع معنى، فهو يولد من رحم فعل التّخييل هذا التّخييل المصاحب لفعل القراءة، اذا فالنصّ مشروع معنى مع وقف التّنفيذ لحين قرائته من طرف القارئ، وهو دلالة على أنّ كلّ نصّ لم ينشر ولم يقرأ هو نصّ بالضّرورة لم يولد بعد، فالنصّ كما اللّوحة يموتان عند عرضهما، ولكن يحييْن من جديد في تلك الإعادة، اعادة القراءة واعادة الفرجة، وكلّ اعادة هي أساسا اثبات لوجودهما أصلا، فمن يقرأ ينخرط بطبيعته مباشرة في موقف ما من النصّ وفي النصّ وبالنصّ. يصير القارئ محدّثا باسم النصّ عن طريق أفكاره ورؤاه، وهي صيغة فيها انخراط وترصّد من أجل فعل اغتيال النصّ، فالنصّ يقع اغتياله بفعل القراءة، يقع اغتياله لحظة قرائته، كما اللّوحة متى وقع عرضها تموت. وعندما نتحدّث عن الإغتيال وفعل الإغتيال هو أمرُ تعبير مجازي ويذهب ضرورة الى اغتيال المؤلّف أو الكاتب، اذ لم يعد الكاتب هو صاحب النصّ، فيصير القارئ هو اللّعبة الثانية للنصّ، ولكن لسائل أن يسأل كيف يتمّ اغتيال النصّ عن طريق الفنّ؟
لعبة التّشكيل والتشكّل تنهي النصّ في موطنه وتزرع فعلا جديدا يكون فعل التّخييل أساسه، فالتّخييل يجمع بين اثنين هما القارئ كمتلقّ والفنّان اعتبارا لأنّه قارئ ولأنّه يعمد الى خياله في استخلاص النصّ وتحويله الى لوحة تعتبر اختزالا لكمّ هائل من اللّغة، اذ لم تعد اللّغة هي السّلطة الوحيدة للنصّ بل تتحوّل السلطة لعالم ثان تحكمه الأشكال والألوان والدّلالات الجماليّة الّتي تعيد انتاج اللّغة بنشاط تأويليّ تخييليّ، فتأتي لعبة العلاقات والتّشكيل والسّياقات والزمان والمكان صنوفا جديدة متجدّدة تبدأ بتفسير النصّ عن طريق اغتيال المعنى، فكلّ قراءة فيها اغتيال للكاتب من أوّل وهلة.
يفتح فعل الإختراق الباب على مصرعيه على التّيه، تيْه فيه جانبيْن، تيْه في الفنّ، تيْه الممارسة والفعل، امّا أن تتّبع لغة النصّ وتتماهى معها وتكون بذلك في عباب النصّ تفصّل وتنتج ما أنتجته اللّغة وتكون بذلك تعاود الكاتب في نصّه أو أن تتيه نحو تثبيت شكل آخر ينحو منحى التّجريد والبحث عن مسار آخر مغايرا لما طرحته اللّغة، تيْه يشابه محاولات تجذير الفنّان في لوحته، لحظة مباشرة عرضها الأوّل بالسّعي المحتوم اليائس وذلك من أجل اسعاف النصّ من موته الحتميّ المرافق له لحظة قرائته الأولى. وهو ما نجده في قول الأستاذ عبد العزيز حمودة :" لسنا في حاجة للتأكيد الواضح وأنّه بموت المؤلّف، والغاء سلطة النصّ، ككيان مستقل ومغلق على معناه، وما تبع ذلك من نقل سلطة التّفسير من النصّ قصد المؤلّف الى القارئ، تصبح القراءة مفتاح تلك الإتجاهات ما بعد الحداثيّة"[1].
ان فعل الإختراق هو الفعل الّذي يفتح للفنّان مجالا واسعا على الإبداع، فكلّما تقيّد الفنّان بالأطر والقواعد الاّ وأنغلق مجال الخيال والتّخييل أمامه وصارت الممارسة التّشكيليّة محدودة الفعل ومحدودة التنوّع وخاصّة اذا ما تعلّق الأمر بمقاربة تشكيليّة لنصوص مختلفة أدبيّة كانت أو فلسفيّة أو تاريخيّة، لهذا على الفنّان ألاّ يكون تحت سلطة الكاتب أو أيّ أحد اثناء الممارسة الفنيّة، أو فلنقل وجب عليه التخلّص من أيّة سلطة تكبّل خياله وتحدّ من عمليّة توليده للّوحة، فهذا التوليد وهذه الممارسة تتطلّبان جرأة كبيرة و خيال كبير حتّى تكون العمليّة الإبداعية في مسارها الصّحيح، من هذا المنطلق تحدّثنا على موت النصّ ومنه موت المؤلّف. وتلغي اللّوحة النصّ في لغته وتحولّها الى لغة بصريّة أكثر كثافة ومعنى. تُكرّس القواعد فتضعف قدرة الفنّان الإبداعيّة فيصير فعله غير مؤثّر على جمهور المتلقّين الّذين لا يستوفون نصيبهم من الإقناع من أعمال تنقصها القدرة المستقلّة على الفعل. أمّا حين يصبح المتلقّي هو محور للعمليّة التشكيليّة فلا مناص الاّ وتفعيل فعل الإختراق الّذي يمثّل محرّك الإبداع الفنّي. تحدّدت لعبة الإختراق في فعل التحويل الجريء للنصّ من مقوّماته اللّغويّة الى فعل تشكيليّ بصريّ مجرّد من الشّخوصيّة الّتي أفلتها النصّ داخل الرواية، فهذا الفعل "الإختراق" يعمل دائما على تغيير لعبة اللّغة، وبمعنى آخر ادخال قاعدة جديدة الى لعبة اللّغة هي قاعدة الإبداع من خلال فعل الإختراق والّذي يعتبر لغة متجدّدة تحيي المجال اللّغوي البصري الّذي يصيغ شكلا جديدا للحياة حيث يكون المعنى قابلا للتحقّق. فما يجعل العمل الفنّي عظيما، هو أنّه أثر لنتيجة تجربة تشكيليّة معيّنة عايشها الفنّان في أشكال رواية مشتركة يتمّ تحويلها بطريقة شخصيّة بين الفنّان والكاتب، يمكن أن يطلق عليها مقطوعة نسميها " العبقريّة"، وذلك بمعنى أنّها طريقة فريدة وثوريّة تماما للإشارة الى هذه التجربة التّشكيليّة وما فيها من متعة بين المعنى والخلق والتفكير والممارسة. تجربة كلّها مخاطر لأنّ الممارسة فيها نوع من المجازفة، مجازفة يكون فيها المجاز من الفعل التشكيليّ مفتوحا على التجريد وأشكال أخرى مختلفة ومتنوّعة، على التّخييلي والخيال، لقدرتهما على تجريد الأمكنة والأزمنة والشّخوص من واقعيتها، فقد يفعل الخيال وفعل الإختراق في المكان (المدينة مثلا أو الحيّ) فعله، فيصوّرهما الفنّان وهو يعرف جيّدا أنّه لا يمكنه حصرهما في المعمار وحده بل يمكن بلورته في تمظهر آخر مغاير للواقع، مجرّد عنه في تسجيل لأبعاد التشكّل وما تحتويه من مشاهد تكون مستساغة من قبل المتلقّي، متحرّرة من التوثيق الواقعي للسرد الثابت، ومتخطّية لحدود ذاتها من خلال تخطّي الفنّان لحدود ذاته. ومن هذا الفعل "الإختراق" تتنبثق الممارسات والتّشكلات الفنيّية في أعمال تنظّر لمفاهيم بعينها تتّصل بالإنسان والزّمان والمناخات، هي ثلاث عناصر رئيسيّة تدور حولها الصّياغات والتّشكل بين الواقع والتّجريد، واقع جرّد من مفهومه وواقعيّته والجنوح نحو الهيأة وشبه الواقعي وآخر جرّد من هيأته نحو الشّكل واللّون في تعبيريته. وما الجزء الثاني من الممارسة الاّ تعبيرا صريحا عن هذا الإنبثاق التّجريدي المعلن في الممارسات واللّوحات التّالية الّتي سجّلت البعث الجديد للّوحة الذي سميته 'ويبعث حيًّا".
ويبعث حيًّا ... الأبيض والأسود هما النصّ صورة ناطقة، بياض ممتدّ يتراجع بفعل اللّغة سوادا تتشكّل بفعله الكلمات، حين دخوله مدار الورشة والفرشاة حيث تغيّرت أقداره الى أن تلاشى بفعل اللّون والممارسة. النصّ الذي استبدل في التمسّك بالواقع بدا أهون ما يكون أمام عالم التّشكيل الّذي جرّده من السّواد المخيّم أنذاك على مشهد الفنون ومسرح الأحداث ليُبعث من جديد فنّا تشكيليًّا مجرّدا من الوجوه والملامح والقسمات، تفقد معه الشّخوص الهيئات والملامح وتُنسج لها هويّة من نوع خاص. اللّوحة تبعث فيه من لونها روحا موضوعيّة تُحوّل الشخص الى فكرة في حالة تماهي مع الألوان والأشكال الجديدة الّتي ترتدي واليها تنتمي. مسار مطّرد من الموت الى البعث في مسرحة الورشة. المذهل أنّ الشّخوص الّتي طمست هويّاتها عادت كما ولدت نقيّة براء من اسقاطات الواقع، لقد حرّرتها أنامل التّشكّل ودفعت بها خارج الأنماط المعهودة. لكن المتأمّل في اللّوحات يقف على حقيقة الصّراع الكامن بين الألوان، صراع من نوع خاصّ، الأسود في مواجهة باقي الألوان لكن يبقى السؤال المحيّر عن الأبيض، الى أيّ جبهة يصطفّ؟
أريد هنا أن أتعامل مع هذا السؤال كاشكاليّة تحتاج لمقاربة جدّية في مسألة التّفاعل مع الممارسات اللّونيّة وقدرتها على انبثاق الأفكار من جديد، انبثاق فيه تفاعل بين ذات الفنّان والعمل التّشكيلي، هي قراءة في المفردة اللّونيّة الّتي تحدّد له قراءة الفعل القصدي، اعتبارا من ما هو مطروح عليه من مسائل متعلّقة أساسا بمسألة اللّغة والنصّ. فاللّون في ذاته يحمل نصّا وأفكارا تتوزّع بين المشهديّة وقراءة اللّون في توزيعه وكثافته ووطأته على نفس المتلقّي، فالعمل التّشكيلي مثقل بدلالات اللّون والشّكل، دلالات بصريّة وأخرى فكريّة تفتح المجال على التأويل والقراءات وخاصّة اذا ما تعلّق الأمر بالممارسة التّشكيليّة تحت وطأة النصّ والرّواية والسّرد فيها اختراق لحدوده ومجالاته، فيها اختراق حتّى للمؤلف وذلك بموت نصّه في العمل التشكيليّ، فحتّى مبدأ التضحية هنا بذاتيّة الذّات "المؤلف" قد نعثر عليه في الممارسة التّشكيليّة، فالموت نظريّ للذات كما ذكر ذلك "ميلر" في كتابه "عشق فوكو"، الذّات التي اعتبرها "فوكو" وهمًا.
قائمة المراجع:
1. عبد العزيز حمودة : الخروج من التيه، دراسة في سلطة النصّ، عالم المعرفة، نوفمبر 2003، مطابع السياسة، ص173.
دكتور في الفنون والوساطة.
استاذ بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس.
Email : ridha.ghali.designer@gmail.com