ممتلكات اليهود العرب في الدول العربية
رائد فؤاد العبودي
وسط نيران الحرب المستعرة في غزة منذ السابع من أكتوبر، وتصاعد التوتر الإقليمي الذي بات يتخذ واقع حرب إسرائيلية إيرانية مباشرة ، تعود ملفات قديمة إلى الواجهة بملامح مستحدثة.فوراء غبار المعارك ونيران الجبهات، ثمة جبهة أخرى لا تقل خطورة عن معارك المدافع والطائرات تُدار بهدوء خلف الأبواب المغلقة وفي مراكز الأبحاث والمحاكم الغربية: إنها جبهة (الممتلكات اليهودية في الدول العربية)، التي تحوّلت من ورقة أرشيفية إلى أداة ضغط سياسي واقتصادي تُستخدم بذكاء بالغ في لحظات الانقسام العربي، وضمن هندسة جديدة لذاكرة الصراع.
حملات قانونية في ظل الحروب والأستقطابات
وفيما تتصاعد الحرب في غزة وتزداد ضراوتها، ويتخذ الصراع الإقليمي بين إسرائيل وإيران أبعادًا أكثر تعقيدًا، مهددة بانفجار مواجهة أوسع تتجاوز حدود العقل والجغرافية نحو خارطة الشرق الأوسط برمتها ، وبينما تُدفع الشعوب العربية نحو دوامة الاستقطاب الإقليمي، تسعى منظمات يهودية قوية ومدعومة من مراكز النفوذ العالمي إلى إعادة طرح معاناة اليهود بوصفهم تعرضوا لنكبة حقيقية، لا كقصة إنسانية فقط، بل كمطلب سياسي وقانوني يُراد له أن يُوازي أبعاد الصراع، بل ويغطي عليها. وهذا لا يجري في فراغ، بل يتقاطع مع المسارات التطبيعية، ويتسلل إلى غرف التفاوض الدولية، بل وحتى إلى طاولات رسم خرائط الشرق الأوسط الجديد، حيث يُعاد تعريف المفاهيم عن الضحية والمعتدي وعمن له الحق في الأرض والتعويض والاعتراف؟
تحريك الذاكرة .. منظمات تقود الحملة التوثيقية
منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، أطلقت منظمات يهودية عدّة، أبرزها منظمة ‘’العدالة ليهود الدول العربية’’ (JJAC) والمنظمة العالمية لاسترداد حقوق اليهود (WJRO)، حملة ممنهجة لإحياء ملف ما بات يُعرف بـ (ممتلكات اليهود العرب)، وهي مطالب قانونية وتاريخية تُحمّل عددًا من الدول العربية، وعلى رأسها مصر والعراق والجزائر، مسؤولية التهجير القسري وسلب ممتلكات اليهود الذين غادروا أو غُيّبوا عن أوطانهم في فترات الصراع العربي الإسرائيلي الممتدة بين عامي 1948 و1972. تطالب هذه المنظمات بحقوق ما يقرب من 850 ألف يهودي فرّوا أو أُجبروا على مغادرة الدول العربية وإيران، تاركين خلفهم ممتلكات وأصولًا تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات. وقد صوّرت هذه الحملات ما جرى باعتباره نكبة حقيقية لليهود.
مصر .. استعداد رسمي مبكر ودعم شعبي واسع للحكومة
على عكس الواقع العربي مجتمعاً الذي لا يكاد يعرف حتى ما يتم تحضيره للمستقبل القريب من ملفات قانونية، تبرز مصر كحالة خاصة متفردة في مراقبة المشهد عن كثب وتهيئة وسائل الرد والحلول وسط إجماع شعبي واعٍ على دعم الموقف الرسمي وسياسة الرئيس السيسي في قراراته التي تجمع بين الحكمة والحزم. ففي أحدث تلك التحركات، وأكثرها تركيزًا، تمثّل في تقرير JJAC الذي ركّز هذه المرة على مصر باعتبارها نموذج المواجهة التالي، حيث تتحدث المنظمة عن مصادرة أكثر من 8000 عقار مملوك ليهود مصريين، وتأميم شركات ومؤسسات تجارية خلال موجات التأميم الكبرى التي انطلقت بقرارات يوليو 1961، إضافة إلى تهجير قسري ممنهج لليهود المصريين بعد حروب 1948 و1956 و1967. تُقدّر JJAC قيمة الأصول والممتلكات المصادرة من يهود مصر بنحو 60 مليار دولار، وهو رقم يتجاوز بكثير ما كانت تصرّح به قيادات يهودية تقليدية في منتصف القرن الماضي، إذ أشار الدكتور نحوم جولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي حينها، إلى أن حجم الممتلكات في مصر والعراق لم يتجاوز 80 مليون دولار لكل دولة. ويبدو أن البعد السياسي لهذه التحركات لم يعد خافيًا، لا سيما في ظل دعوة شخصيات مؤثرة مثل الدكتور إيلي كوهين، أحد أبرز وجوه الجالية اليهودية المصرية في أوروبا، إلى ما سماه (التعويض الذكي)، والذي اقترح فيه على الحكومة المصرية تجنب الإحراج الدولي عبر تأسيس مصرف خاص لصرف تعويضات رمزية، أو تخصيص قطعة أرض استثمارية للجالية اليهودية، بوصفها خطوة حضارية لا تتطلب سدادًا نقديًا مباشرًا.
العراق .. بين سقوط الجنسية وتهريب الأرشيف
ولم تقتصر الضغوط اليهودية على مصر وحدها، بل يبدو أن الملفات القانونية التي يتم إعدادها الآن تتجه نحو العراق والجزائر، حيث تسعى المنظمات ذاتها إلى توثيق ما تعتبره نهبًا لممتلكات اليهود في هذين البلدين. في العراق، تشير التقديرات إلى مغادرة أكثر من 120 ألف يهودي بين عامي 1948 و1951، في أعقاب قانون إسقاط الجنسية وقانون الحجز الذي صودرت بموجبه أغلب ممتلكاتهم، كما تطالب إسرائيل بإبقاء الأرشيف اليهودي العراقي الذي نقل إلى واشنطن بعد الغزو الأمريكي، وسط مزاعم أن هذا الأرشيف يحتوي على وثائق تثبت الملكيات المصادرة. تُقدّر المنظمات اليهودية قيمة المطالبات العراقية بنحو 150 مليار دولار.
الجزائر .. جنسية فرنسية وموقف سيادي
أما في الجزائر، فقد غادر حوالي 140 ألف يهودي البلاد بعد الاستقلال عام 1962، مع موجة رحيل الفرنسيين، وتُقدّر المنظمات اليهودية قيمة الأراضي والعقارات المصادرة هناك بنحو 25 مليار دولار، رغم أن الجزائر الرسمية لا تعترف بمسؤوليتها تجاه هؤلاء، كونهم كانوا يحملون الجنسية الفرنسية.
بين الأدلة والاتفاقيات .. التحركات في العمق القانوني
تحركات هذه المنظمات لا تنحصر في التصريحات أو التقارير، بل تشمل أيضًا نشاطًا قانونيًا محكمًا يُجري في الخفاء، عبر جمع الوثائق الرسمية التي تُثبت ملكية اليهود للممتلكات المصادرة، وإعداد ملفات قانونية تُقدّم للمحاكم الغربية، وقد صادرت السلطات المصرية في وقت سابق حوالي 1.7 مليون وثيقة كانت في طريقها إلى إسرائيل لاستخدامها كأدلة في هذه الدعاوى. كما تعمل هذه المنظمات على الربط بين ملف التعويضات وبين مسارات التطبيع، في محاولة واضحة لجعل هذا الملف جزءًا من شروط الاتفاقات المستقبلية بين إسرائيل والدول العربية.
ردود رسمية غائبة أو مواربة
حتى الآن، وبينما تتحرك مصر الرسمية والشعبية مبكراً، لم تُصدر العراق أو الجزائر مواقف رسمية واضحة بشأن هذه المطالبات، بل تسود حالة من الصمت الحذر والتجاهل الإعلامي. وضمن جهودها المبكرة في مواجهة هذه التحديات قامت مصر في اعادة ترميم بعض المعابد اليهودية بدعم حكومي، وهو ما فُسّر كخطوة لحماية التراث لا للاعتراف بالمطالبات المالية. العراق، من جهته، يرفض بشكل قاطع أي حديث عن تعويضات لليهود، بل يعتبر أن تهجيرهم تم بناء على اتفاق مع الدولة الإسرائيلية في سياق تبادل سكاني إقليمي. أما الجزائر، فترفض الخوض في الملف من أساسه، معتبرة أن أغلب اليهود المغادرين كانوا فرنسيي الجنسية وبالتالي لا تمتلك أية التزامات قانونية أو سياسية تجاههم.
معطيات تاريخية وترتيبات حقوقية
في ظل غياب شبه كامل للجهد العربي.
إذا ما استثنينا مصر، يتم ترتيب معطيات تاريخية وخطوات قانونية تشير كلها أن ملف ممتلكات اليهود في الدول العربية قد بات اليوم مادة لحملات منظمة تستند إلى سرديات موثقة وملفات قانونية متنامية. ففي مصر، تضع المنظمات اليهودية تقديراتها الخاصة بأن عدد اليهود الذين غادروا البلاد بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين يُقدّر بما يتراوح بين 75 إلى 80 ألف شخص، حيث تُقدّر منظمة العدالة ليهود الدول العربية (JJAC)، على عهدة إحصائياتها الخاصة، أن عدد العقارات المصادرة بأكثر من ثمانية آلاف عقار، فضلاً عن تأميم شركات ومؤسسات تجارية يهودية عقب قرارات يوليو 1961، مع تقديرات تصل بقيمة تلك الممتلكات إلى نحو 60 مليار دولار. كما صادرت السلطات المصرية حوالي 1.7 مليون وثيقة كانت متجهة إلى إسرائيل لاستخدامها في الدعاوى القضائية، بينما تحتفظ جهات في أوروبا وإسرائيل بأرشيفات تحوي سجلات ملكية تعود ليهود مصريين. ومن الشخصيات البارزة في هذا السياق الدكتور إيلي كوهين، الذي دعا إلى ما وصفه بـ”التعويض الذكي” عبر تخصيص أدوات مالية أو عقارية رمزية لصالح الجالية اليهودية.
أما في العراق، فقد غادر ما يقارب 120 ألف يهودي بين عامي 1948 و1951 إثر قانون إسقاط الجنسية وقانون الحجز الذي صادر أغلب ممتلكاتهم، وتُقدّر المنظمات اليهودية قيمة هذه الممتلكات بحوالي 150 مليار دولار. ويكتسب الملف بعدًا توثيقيًا إضافيًا مع وجود “الأرشيف اليهودي العراقي” الذي نقل إلى الولايات المتحدة بعد الغزو الأمريكي، ويضم وثائق ملكية وعقودًا وسجلات اجتماعية واقتصادية. مع ذلك، ترفض الحكومة العراقية هذه المطالبات، معتبرة أن تهجير اليهود تم ضمن اتفاق تبادل سكاني مع إسرائيل.
في الجزائر، غادر حوالي 140 ألف يهودي البلاد بعد الاستقلال عام 1962، بالتزامن مع خروج الفرنسيين، وتُقدّر قيمة ممتلكاتهم المصادرة بحوالي 25 مليار دولار. وتبرر الجزائر موقفها الرافض لفتح هذا الملف بأن أغلب هؤلاء اليهود كانوا يحملون الجنسية الفرنسية، مما ينفي عنها أي التزام قانوني أو سياسي تجاههم، وتعتبر الأمر شأنًا فرنسيًا داخليًا. بهذا، يتضح أن المطالبات اليهودية، وإن بدت في ظاهرها قانونية، إلا أنها تستند إلى عملية توثيق معقدة، وتنطوي على بُعد سياسي واستراتيجي يستحق المتابعة الدقيقة.
خاتمة .. بين القانون والسياسة، ذاكرة قابلة لإعادة التعريف
رغم أن هذه المطالبات ما تزال تُقدَّم حتى اللحظة ضمن إطار حقوقي وقانوني لا يُلزم أحدًا، إلا أن تطوّر السياق الدولي، وسط تغوّل الآليات القانونية العابرة للحدود، قد يؤدي إلى فرض تشريعات غربية تُجبر الدول المتهمة على دفع التعويضات، أو استهداف الأصول الخارجية لتلك الدول عبر القضاء الغربي، مما يشكل تهديدًا فعليًا للمقدرات السيادية. إن الاستعداد لهذا السيناريو لا يكون فقط عبر رفض الخطاب، بل بتحصين الموقف القانوني العربي، وتوثيق التاريخ الرسمي والشعبي لهذا الملف، وتشكيل فرق متخصصة في القانون الدولي، لأن استعادة هذه الحقوق وإعادة تعريف المظلومية ورد الأعتبار والممتلكات المسلوبة لم تعد مجرد مناورة سياسية، بل باتت مشروعًا استراتيجيًا منظمًا لإعادة تعريف ذاكرة الصراع في الشرق الأوسط بأكمله .