قراءة نقدية في قصيدة " هل تعود السَّمَاء" للشاعر عبد المنعم حمندي:
زيد جواد
في قصيدة عبد المنعم حمندي (هل تعود السَّمَاء) تنداح المآسي وتتجلى صور الانحطاط عبر لغةٍ مفعمة بالحيوية والرمزية، التي تأخذ القارئ في رحلة استكشافية لعمق التهلكة التي تحيط بالإنسانية. إذ يتنقل الشاعر ببراعة بين أفق الأمل المضيء ومرابض الظلام، مُظهِرًا تباينًا مدهشًا بين النقاء المفقود والفوضى المتنامية.
تبدأ القصيدة بتقديم نور داخلي، كرمز للروح الطاهرة والرجاء في عالم يلفه البؤس. هذا النور، الذي يُفترض أن يكون منارة الأمل، يُقابَلُ بتكثيفٍ درامي مدهش، حيث يصبح الشاعر في لحظةٍ واحدٍ ملكًا لجريمة القرن: "بابلو إسكوبار". من خلال هذا الرمز، يُجسِّد حمندي عظمة الفساد وإتلاف القيم الإنسانية، في أسلوبٍ نقدي صارم يكشف عن تجسيد الشر وتفشيه في كل ركن من أركان الوجود.
القصيدة تتجاوز السطحية لتخترق أعماق الرموز الدينية والتاريخية، من خلال استحضار "عزرائيل" و"غيلان" كرموز للدمار والتدمير. هنا، يُعيد الشاعر تركيب المعتقدات الدينية والتاريخية ليُعرض فجيعة بغداد، في تلميحٍ واضح إلى أن الفساد لا ينكر نفسه فقط بل يفسد كل ما هو مقدس.
في تمثيلاته للأحداث الطبيعية، تُبرز صورة الديناصورات سحقها للغابات وإحراقها لبغداد، تعبيرًا عن القوة العمياء التي تدمر كل ما هو طاهر. تلك الصورة، التي تجمع بين الفناء البيئي والتدمير الثقافي، تُجسد في جلاء استبداد القوى الضارة بموارد البشرية وتاريخها.
القصيدة تُبهر بلغة البليغ وتجسيدها لتباين الألوان. الأبيض والأسود، رموز النقاء والفساد، يتجلى استخدامهما في إطار سياق يوضح مدى تجريد القيم الإنسانية تحت تأثير الشر. هذا التباين ينقل القارئ إلى صميم الأزمة، ويساهم في تعميق الوعي بمدى التهديد الذي يواجه الإنسانية.
تعكس القصيدة نداءً دراميًا للحزن العميق، حيث يتمنى الشاعر من قلبه أن يُطفئ نوره، متحدثًا عن الغيلان كممثلين للشر المدمر. ، يتم تسليط الضوء على حالة اليأس من إمكانية إصلاح العالم في ظل الانحدار الأخلاقي العميق، ما يجعل القصيدة صرخةً قوية ضد الفساد ومشهدًا داميًا يُثير التأمل والتفكر العميق.
بأسلوبه البليغ، يعكس عبد المنعم حمندي ببراعة استخدام الرموز والتصوير الجريء لرسالة قوية تحذّر من الانحدار البشري والفساد الذي يهدد الإنسانية. هذه القصيدة، بأبعادها الرمزية والنقدية، تجعلنا نعيد التفكير في العلاقة بين الخير والشر، وفي مدى قدرتنا على مواجهة الفساد وإصلاح ما تخرّب. والشواهد عديدة . اخترت لها عنواناً مغايراً
"براكين التهلكة" حيث تتجلى كعمل أدبي يغمر القارئ في عوالم رمزية وفلسفية، حيث تبرز المشاهد الفاجعة والتناقضات في صورة مؤثرة ومثيرة للتفكير. نحلل في هذه القراءة النقدية المقاطع الرئيسية للقصيدة ونربطها برؤى فلسفية تعكس طبيعة الصراع بين النقاء والفساد، الأمل واليأس.
**"لولا النور الساكن قلبي
لأقمت الحد وأحرقت الأرضَ وما فيها
أصبحت 'ملك الكوكايين'
أمير البحر
'بابلو إسكوبار'"**
تبدأ القصيدة بنورٍ داخلي يمثل الأمل والنقاء في قلب الشاعر. في الفلسفة الوجودية، يُعتبر النور رمزًا للمعنى والغاية وسط عالم يُعاني من عبثية مستفحلة. الشاعر يبرز الصراع بين النقاء الداخلي والفساد الخارجي، حيث يتحول إلى شخصية بابلو إسكوبار، رمز الفساد والجريمة. هذا التحول يرمز إلى كيفية تأثير القوى الطاغية على الأخلاق الفردية والمجتمعية، ويعكس الصراع بين الخير والشر.
**"أصعد نحو الشمس
ويكون الليل حذائي
حلّقتُ..
وطويت سمائي
فرأيت ما ليس يُرى"**
يستخدم الشاعر صورة الصعود نحو الشمس كرمز للأمل والطموح، بينما يتحول الليل إلى حذاء يُجسّد الظلام والشر. في الفلسفة الرمزية، يُعبر الصعود نحو الشمس عن السعي نحو الكمال، بينما يعكس الليل القلق والخوف. هذه الصورة تعكس رحلة البحث عن النور في عالمٍ مظلم، وتبرز التباين بين الطموح والمأساة.
**"حلّقتُ..
رأيت أشرس حراس الملكوت
'عزرائيل' يغوي بغداد ويمسخها أنثى
قد عاشرها. فانكفأت،
حبلت منه،
ولدت سبعة غِيلان في ثوب طوائف"**
في هذا المقطع، يستحضر الشاعر عزرائيل، حارس الموت، ليُصوّر تدمير بغداد وتحولها إلى "أنثى"، مما يعكس تحويرًا لرؤية الموت والفساد. الفلسفة الميتافيزيقية هنا تطرح تساؤلات حول معنى الفناء والتغيير في ظل قوى الموت. الغيلان السبع يمثلون الفساد الذي ينمو وينتشر، مما يعكس تفشي الشر في النسيج الاجتماعي والثقافي.
**"ويطيعون أباهم
نشروا الجرذان.. ودود الزمن الخائف
زرعوا الأرضة في فتنٍ
وضغائن حبلى بزعانف"**
يُظهر الشاعر كيفية انتشار الفساد والأمراض الاجتماعية كرموز للخراب. في الفلسفة الاجتماعية، يُعتبر انتشار الفساد كدليل على انهيار القيم والمجتمع. الجرذان والأرضة تمثل تآكل القيم والأخلاق، بينما الفتن والضغائن تعكس الصراعات المستمرة التي تزعزع استقرار المجتمع.
**"نثروا الرمل: فحيح الحيات
صرير زواحف
تتصّاعد في ضوء الشذاذ
وتبث سموم السيل الجارف"**
تُصور هذه الأسطر تآكل العالم من خلال الرموز الحيوانية التي تعبر عن الشر والدمار. الفحيح والصرير يعكسان قوى الفساد التي تتسارع وتنتشر. في الفلسفة الرمزية، تُظهر هذه الصور كيف يمكن لقوى الشر أن تفسد النظام الطبيعي والإنساني، مما يعكس الصراع بين الخير والشر في سياق دائم ومستمر.
**"حلّقتُ رأيت: الدّيناصوراتْ
تسحق آلاف الغابات،
وتحطم أجيال النمل النائم في الصلوات
تكسر أضلاع النهر،
تحرق بغداد وتشوّه صورتها،
وجهٌ غجريٌ لا يشبهها
قالت: لست أنا..
لست أنا!!"**
تُجسد الديناصورات في هذا المقطع قوى هائلة تُمثل الفوضى والتدمير. تدمير الغابات والنمل النائم يُعبر عن إلحاق الضرر بالبيئة والثقافة، مما يرمز إلى تحطيم النظام البيئي والاجتماعي. هذا التصور يعكس قوى التدمير التي تتجاوز حدودها وتؤثر على الأجيال القادمة.
**"لولا الغيلان السبعة والأصفاد
لشنقت المجرم 'بابلو إسكوبار'
في سِّلْسِلَة النار
لو لا الغيلان
ما كانت بغداد سبية
من غير هوية
ما قام الماء
ولم يتغير لون الحرية"**
في هذا المقطع، يُشير الشاعر إلى تأثير الغيلان السبعة كعقبة تمنع تحقيق العدالة. الغيلان هنا يمثلون الفساد الذي يحول دون تحقيق التغيير. الفلسفة السياسية والاجتماعية تظهر كيف يمكن للقوى الفاسدة أن تعرقل مساعي العدالة وتُعوق حرية الشعوب.
**"في جوف الليل خلعت الليل،
وخلعت عمائم كهان وأباطرة
تلهو في التسبيح
قرأوا كتب السحر،
أسفار الصقر بوجه الريح
فتدلى ألف نبي من دون مسيح
وتدلـّى الرأس المقطوع من الرقبة
يحدق في الحبل وفي الخشبة"**
القصيدة هنا تتناول تحطيم الأيقونات الدينية والسياسية، مما يعكس تهشيم القيم الرمزية والسلطوية. الفلسفة النقدية تظهر كيف يمكن للرموز الدينية والسياسية أن تُحطّم وتُعيد تشكيلها، مما يعكس تأثير الفساد على الهويات والمعتقدات.
**"يا قلبي أطفئ نورك
دع هذي الروح تغادر
فالغيلان من أبناء ملك الموت
دمهم شرر النار
جزارون ذبحوا الحب، غبار الطلع،
الأزهار، الأبرار، الأشجار
صبغوا التاريخ الأبيض بالأسود
وأراقوا بدل الماء دماء"**
في هذا المقطع، يُطلب من القلب إطفاء نوره، مما يعكس حالة اليأس من إمكانية إصلاح العالم. يُصور الشاعر الغيلان كرموز للشر الذي يدمّر كل ما هو جميل ونقي. في الفلسفة الإنسانية، يُطرح هذا المقطع تساؤلات حول فقدان الأمل في مواجهة الشر الجارف.
**"فلمن ترهن حرفك؟
ولماذا تحشر اسمك في زحمة هذي الأسماء؟
هل تقدر أن تجبر كسر الأضلاع،
وأن تقطع ألسنة التدليس؟
أن تنزع جلدك وتواري وجهك يا قديس؟
إجبرها وتنزّه
فالغيلان هم الغيلان
والقادم أسوء من إبليس"**
تطرح هذه الأسطر تساؤلات وجودية حول دور الأفراد في عالم يحيط به الفساد، والتحديات التي يواجهونها في محاولة الحفاظ على القيم والأخلاق. يعكس الشاعر اللامبالاة تجاه النضال الفردي في ظل واقع يزداد سوءًا، مما يجعل القصيدة دعوة للتفكر العميق في معنى النقاء والفساد.
من خلال هذه الرؤى الفلسفية، تقدم قصيدة عبد المنعم حمندي "براكين التهلكة" تأملات عميقة حول التهلكة والشر، وتأثيرها على الإنسانية. الرموز والصور الشعرية التي يستخدمها الشاعر تخلق تجربة قراءة تفتح آفاقًا جديدة لفهم التناقضات الوجودية والصراعات الاجتماعية. إنها براكين لن تعود السماء لها
® قصيدة هل تعود السَّمَاء للشاعر عبد المنعم حمندي منشورة في جريدة الزمان العراقية يوم 6 تموز2024