عصر التنافس الكبير الجديد.. هل التاريخ يعيد نفسه؟
مصطفى عمار زهير الشهد
في بداية القرن الحادي والعشرين يشهد العالم مرحلة جديدة من التنافس الدولي تذكرنا بتلك التي سبقت الحرب العالمية الأولى عندما كانت القوى الأوروبية الكبرى تتنافس على النفوذ السياسي والاقتصادي. اليوم نعيش تحولات عميقة في العلاقات الدولية والتداخل بين الدول الغنية تكنولوجياً وعلمياً لكنها ضعيفة عسكريًا وسياسيًا في مواجهة الصراعات المستجدة. هذا التنافس الجديد يبدو وكأنه إعادة تشكيل للصراع الذي سبق الحرب العالمية الأولى، لكن مع أبعاد مختلفة.
تشابهات مع حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا تتشابك مصالحها الاقتصادية بشكل معقد، ما أدى إلى صراع على الهيمنة. اليوم نجد أن الصين، الولايات المتحدة، وروسيا تتشابك مصالحها الاقتصادية بشكل عميق، خصوصًا في مجالات التجارة، التكنولوجيا، والطاقة، مما يعزز احتمالات التصادم بين هذه القوى:
- الصين: تسعى الصين من خلال مبادرة “الحزام والطريق” لإعادة رسم الخريطة الاقتصادية العالمية عبر مشاريع البنية التحتية التي تربط آسيا، إفريقيا، وأوروبا. هذه المبادرة تُشبه في بعض جوانبها السباق الاستعماري في القرن التاسع عشر، حيث كانت القوى الأوروبية تتنافس على النفوذ الاقتصادي.
- روسيا: تعتمد روسيا على قوتها في مجال الطاقة والنفوذ العسكري، حيث تسعى لتوسيع علاقاتها مع الدول الآسيوية والأفريقية لتجاوز العقوبات الغربية. ومع تضاؤل عدد حلفائها، نجد أن روسيا بدأت في تعزيز قدراتها العسكرية، بما في ذلك تسليحها النووي في محاولة لإظهار قوتها على الساحة العالمية.
- الولايات المتحدة: رغم تراجع نسبتها في الهيمنة الاقتصادية مقارنة بالعقود الماضية تظل الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالم. تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتها من خلال تحالفات استراتيجية مثل حلف الناتو، وتعميق شراكات اقتصادية في المحيطين الهندي والهادئ.
تداخل المصالح الاقتصادية والسياسية
كما كان الحال قبل مئة عام، يُعزز التشابك الاقتصادي بين القوى الكبرى التنافس بدلًا من الاستقرار. أمثلة على ذلك تشمل:
1 - التكنولوجيا: التنافس بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة التكنولوجية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس يعكس السباق الصناعي الذي شهدته أوروبا قبيل الحرب العالمية الأولى.
2 - الطاقة: التنافس على أسواق الطاقة يضع روسيا في مواجهة مع الولايات المتحدة وأوروبا، فيما تُعد الصين أكبر مستورد للطاقة، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في هذا المجال.
3 - التجارة العالمية: رغم الروابط التجارية المتينة بين الولايات المتحدة والصين، فإن الحروب التجارية المتكررة تهدد بقطع هذه الروابط، تمامًا كما كانت الحال بين القوى الأوروبية قبل الحرب.
مخاطر النظام متعدد الأقطاب
التعددية القطبية، التي تُعبر عن تنوع القوى الكبرى في العالم، تحمل في طياتها مخاطر كبيرة. التاريخ علمنا أن التعددية القطبية قبل الحرب العالمية الأولى أدت إلى سلسلة من التحالفات المعقدة والأزمات الإقليمية التي انتهت بصراع عالمي. اليوم نرى تشابهًا في عدة مجالات:
- التحالفات العسكرية: تسعى الولايات المتحدة لتعزيز تحالفاتها في آسيا لمواجهة الصين، بينما تعمل روسيا والصين على تعزيز شراكتهما الاستراتيجية لمواجهة الهيمنة الغربية.
- الأزمات الإقليمية: الأزمات في أوكرانيا، تايوان، والشرق الأوسط تُظهر أن المصالح المتضاربة بين القوى الكبرى قد تُشعل صراعات أكبر.
- غياب الحوكمة العالمية: كما كان الحال قبل الحرب العالمية الأولى يعاني النظام الدولي الحالي من ضعف المؤسسات الدولية، ما يعجز عن حل النزاعات الكبرى.
الخاتمة
عصر التنافس الكبير الجديد يعكس بوضوح تكرارًا لتاريخ حقب مضت، لكن بأدوات وأبعاد جديدة. بينما يفتح التشابك الاقتصادي والتعددية القطبية آفاقًا للتعاون، فإن المخاطر المرتبطة بالتحالفات العسكرية والأزمات الإقليمية تجعل هذا العصر محفوفًا بالتحديات. إن استخلاص الدروس من الماضي، خاصة من حقب ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، قد يكون مفتاحًا لتجنب الوقوع في صراعات عالمية جديدة.
إن وصول ترامب إلى الحكم وظهور تقارب ظاهري بين روسيا والصين قد يخلق توازنًا عالميًا يحافظ على الاستقرار، بعيدًا عن التلويح بحروب عالمية جديدة. ربما يكون هذا بداية لتشكيل نظام عالمي جديد، لكن يبقى السؤال: هل تستطيع القوى الكبرى اليوم إيجاد توازن يضمن الاستقرار الدولي، أم أن العالم مُقبل على صراع آخر يعيد تشكيل النظام العالمي؟