الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من كتاب ومرت السنوات على عجالة (3)

بواسطة azzaman

من كتاب ومرت السنوات على عجالة (3)

نبيل يونس دمان

 

أتذكر كيف كان الاكراد من القرى الجبلية يجلبون منتوجاتهم الزراعية ليقايضوها بالحنطة او الشعير او مبلغ من الفلوس وكنا نذهب لاستقبالهم في محيط البلدة وكل يريد اقتيادهم الى منزله ولكن اغلبهم كان يسلك طريقه الى بيوت اصدقائه( دوست) وعند طرح المنتوج وفي اكثر الاحيان يكون عنباً، يتطوع طفل او شاب بدعوة الناس من على سطح علية للاقبال على الشراء مقابل كذا من الحنطة ويحصل اهل ذلك البيت على هدية صغيرة من الرجل عبارة عن سلة تسمى( نابركي) فيما السلال الكبيرة تدعى الواحدة( قرطالة) .

في تلك السنوات كان عمي قد تعين معلماً ومديراً في قرية “مرسيدا” المزورية التابعة الى ناحية أتروش وكان فراشها واسمه موسى قد رافق عمي كامل في أول عطلة ربيعية من عام 1959 سيرا على الاقدام الى القوش وبحوزتهم بندقية نوع” أنكليزي” كان كامل قد إشتراها لوالدي بمبلغ 60 ديناراً والذي ظل يتباهى بها ويحملها كلما دعت الضرورة ولم يمر وقت طويل حتى وقع تمرد الشواف في الموصل في آذار من ذلك العام فتسلح بها ونزل مع الآخرين الى الموصل. تعلم كامل الكردية وروى لنا حكايات كثيرة منها قصة عمل( الكون بفرا) وهي عبارة عن طمر كميات من الثلج المنهمر بكثافة في الشتاء تحت القش او التبن وما ان ياتي الصيف حتى يفتح الاهالي مجرى للماء البارد بل قل المثلج من ذلك الخزين. ابن خالة والدي صادق متي في نفس تلك الفترة تعين في قرية مجاورة اسمها” زيناوه” وتشاء الصدف ان يطلق طلقة عشوائية فأصابت احد الاهالي وأردته قتيلاً، الحادث وقع قضاء وقدراً وقد سوي بدفع غرامة مالية، ونقل على اثرها الى قرية شاريّا الأيزيدية ثم خانصور في ناحية سنوني فالمدرسة الاولى الابتدائية في القوش.

يا له من يوم احتفظ بذكراه عندما اخذتني جدتي شمي لاول مرة الى عمنا الحلاق حبيب طعان في السوق، وقبل ان تتركني عنده وضعت في جيبي مبلغ( 10) فلوس واوصته بان يحلقني على المودة، فجلست على مصطبة خشبية صقيلة وباردة بدت لي عالية كثيرا نسبة الى صغر سني، وكنت ارى امامي حركة السوق المكتظ بالتجار والفلاحين والمعلمين والعاطلين وكبار السن والغرباء من الأكراد والأيزيدية والآثوريين، رجالا ونساء والجميع في حركة دائبة ذهاباً وايابا.. ، عندما حلق لي شعري باهتمام وتأني حسب توصية الجدة، اخرجت له قطعة النقد، فاستلمها وهو يبتسم ثم ردد كلام الجدة قائلاً” هذا نبيل مدلل احلق شعره جيدا وعلى المودة... ثم .. 10 فلوس وبس».

تردد دائم

حتى بعد إنتقالنا الى البيت الجديد في محلة التحتاني، كنت دائم التعلق بمحلة اودو وبإعتبار مركزها يشكل بيت خالي، فكنت دائم التردد عندهم، كان خالي الصغير عزيز يروي لي قصصاً مخيفة عن الأشباح والجان، ثم يروي قصة( نسيمو) المؤثرة لأشرع بالبكاء اثناء سماعي لخطفها وهي طفلة صغيرة من اطراف قريتها من قبل الأغراب، وعندما اهم بالمغادرة يقول لي سيخرج عليك في الطريق واحد من الجن له شوارب كثة إسمه( شيخ موس) من بيت الخالة تحّا( والدة إيّا قودا) الدامس الظلام خصوصا في الشتاء وعدم وجود الكهرباء، فكان ذلك يخيفني فأرجع ليعبرني احدهم المكان أو أواصل طريقي راسماً علامة الصليب. وكان ابن خالتي جميل بطرس قيا يخيفني ايضاً فغرب بيت خالي خرابة لبيت تساقطت جدرانه ولا زالت فيه فتحة لسرداب( آخور) قديم ونظرا لسقوط المطر كانت القطرات المتساقطة على ارضية ذلك القبو المكومة فيها الاحجار والجص المتصلب( خرشانه) كانت تتراقص تلك القطرات، كنت أسأل جميل ما هذا الوهج المنبعث من ارضية المكان فيجيبني” انهم قم قِمّي، اهرب لا يأكلوك!! “ والحقيقة ان جميل كان عاجزا عن قول( كمكمّي) وهي زواحف صغيرة تقتنص الفراشات. كنت احيانا العب في محيط بيت خالي، ويوما شهدت عناداً بين داود دمان وموسى حميكا ولنقل مراهنة لمن يستطيع مد رجليه على عرض حفرة كونكريتية متوازية المستطيلات خاصة باقفال شبكة الماء( كل يوم مرتين او ثلاث مرات يأتي موسى روفا وبيده حديدة طويلة على شكل حرف تي ليفتح او يقفل الشبكة) على اية حال إستطاع موسى النجاح، فيما سقط داود داخل الحفرة الممتلئة بمياء الامطار، وكان الجو باردا فاصطكت اسنانه من البرد وهو ينهض ويتجاوزها باتجاه منزله القريب وسط صياحنا نحن الاطفال، ومضى داود خجلاً وتضايق من ملاحقة الصبيان فأطلق بعض الشتائم العادية في ذلك الزمن، فتفرقنا. وعلى ذكر موسى تحدثني والدتي بأنه في عز الشتاء كان يأتي الى بيتنا يسأل عن صديقه داود وهو يرتدي سروال رياضة قصير ويلتف بيديه حول موقد النار فيسأله والد داود العم ايليا” هل يبردك يا موسى” فيقول كلا يا عمي، فيردف العم ايليا لماذا أذن تحتضن الموقد؟! ثم يلح بالسؤال عن داود فيقول له انه فوق السطح فيصعد موسى مسرعاً الى سطح الدار الاعلى في ظرف مناخي قاسي وهو بالسروال القصير.

عندما تزوج خالي بولص عام 1959 من حياة هرمز، كانت الحفلة متواصلة لعدة ايام، وقبلها كنا نتجمع كل ليلة في بيتهم لنعقد الدبكات الجميلة، وكنت ارى جارتهم الشابة البالغة سمرية حميكا تغني( منحولي) بتواصل وبصوت جميل، ليؤدي الشباب والشابات انواع الدبكات من بطيئة الحركة الى سريعة، في يوم حفل الخال وانا طفل أميل الى المغامرة، ادخلت اصبعي في احدى فتحات قضبان الشباك الذي فوق بيت الماء، ولم استطع إخراجه وبكيت وجاء من ينجدني دون فائدة والألم يعذبني، جاء العريس وقال انتظروا وهو يبتسم، فمضى وبعد هنيهة عاد وبيده صابون، فبلل يدي بالماء ثم وضع عليها مادة الصابون، وبحركة تدريجية سحب اصبعي فعدت طليقاً. وبعد ايام ونحن في طريق الدير السفلي، انجرحت يدي بشدة في منطقة قريبة من ابار الماء، وصار الدم يسيل منها، فأخذ احدهم حفنة من التراب ووضعه فوقها حتى توقف الدم، وبعد ايام ظل الجرح طرياً على ظهر يدي فقام احدهم بنفخ دخان السيكارة بإتجاه الجرح، وتكررت العملية بضعة ايام حتى جف، فشفيت ولا زال أثره في يدي اليسرى.

تقدمت الى مدرسة القوش الاولى عام 1957- 1958 فرفض طلبي لنقص شهرين عن عمر الدخول اليها، لذلك تأجلت دراستي الى العام التالي حيث في صيف عام 1958 سجلني عمي كامل دمان في المدرسة التحتانية وكان موقعها في بناية( شيشا كولا) ومديرها حنا ﭙتي صفار. في ذلك الصيف افتتحت بناية جديدة تابعة لدير السيدة، عند سوق القوش، ليصبح اسم المدرسة( العزة الابتدائية للبنين).

كل شيء جديد في حياتي: ولادة الجمهورية العراقية في 14 تموز، ترك بيتنا القديم في محلة اودو الى بيتنا الجديد على مرمى عصى من المدرسة. كان موضع صفي يلي الادارة وله شباك يطل على السوق مقابل دكان ميخا سكماني، معلمي الاول رحيم سليمان كتو ذو وجه صبوح، يبذل جهده في التدريس مع بعض الانفعال بحق المخالفين من الطلبة. كان يجاورني في المقعد الدراسي طالب من قرية الشرفية اسمه اندراوس، كان يأتي كل يوم مشياً على الاقدام، وهو اول من علمني رسم فرخ الدجاج، كنت اضحك منه وهو يسمي الفرخ( ﭼوكا).

اسف عميق

في احد الايام ونحن في الدرس الاخير، وانا جائع وفي شوق للخروج من المدرسة، يبدو بدَر مني شيء غير مقبول، فمسكني في اذني اليمنى للحظات ثم تركني، وبعد قليل وانا في الطريق الى البيت اشار احد الطلبة بسبابته الى اذني قائلا”( حَلّيْ) الدم يسيل من أذنك” فتلمست رطوبتها واسرعت وانا ابكي الى البيت، ما ان رأتني جدتي بذلك الحال حتى ارجعتني الى المدرسة وامام المعلمين والفراشين صرخت على المعلم رحيم بما اقترفت يداه، فأبدى أسفه العميق، مما حدى بجدتي ان تغير لهجتها لتقول لا عليك افندي، وعدنا الى البيت.

في نفس السنة وزع علينا الغذاء المجاني، بعد الفرصة الثالثة جاء المدير وطلب من التلاميذ الخروج امام الصف، فوزع علينا الصمون الحار الذي كان يخبزه( شابا سيبو) في اول فرن صمون يفتتح في تاريخ القوش، وكان يوزع علينا ايضا اللحم والبيض والتفاح والبرتقال وحبوب فيتأمين كروية جلاتينية، اضافة الى الحليب الذي كان يجهزه المستخدمان جبو كادو ويوسف كعكلا. اعطى مديرنا ارشاداته في النظافة والاكل بنظام، هكذا انسجمنا مع توجيهاته، ولكننا فوجئنا في اذار 1959 بوفاته في الموصل فخرجت القوش عن بكرة ابيها لتشييعه، وليلف الحزن مدرستنا وتلامذتها الصغار.

في الصف الثاني وعلى نهاية ممشى في شمال المدرسة كانت شعبتي التي مرشدها المعلم ياقو يوسف عوصجي، وقد شاركني في رحلة الدرس الطالبان: شكيب سليمان جلو وحازم يوسف كردي، كانا بحاجة الى مساعدتي في الامتحانات، لا ادري كيف تقبلت منهم هدايا بالمقابل، فالاول كان يزودني ببكرات خيوط غالية ونادرة من ابريسم او صوف، اما الثاني فكان اخيه حميد يعمل في مطبعة ببغداد، فيزودني بمفكرات سنوية او دفاتر ملاحظات صغيرة مع اقلامها الرشيقة الناعمة، كم كانت تلك الهدايا تدخل الفرح الى نفسي.

في الثالث كان صفنا في الطابق الثاني فوق غرفة المعلمين بالضبط، وكان مرشدنا المعلم جوزيف مقدسي( من الموصل) ذلك المعلم البشوش والمبتسم على الدوام، في تلك السنة والسنة التي تلتها، وصلت كثير من العوائل الألقوشية من الموصل هربا من موجة الإغتيالات التي اعقبت مؤامرة الشواف، فقد زاملنا في الصف كل من نشأت يوسف توسا، زهير صبري نكارا، بولص ميخا بوكا، ورمزي چوكا صفار، ولان رمزي قدم مؤخرا فلم يتوفر له مكان للجلوس، فسحب احد كراسي الفراشين الى صفنا ليجلس رمزي في اول الصف. كان المعلم جوزيف يستمتع بمقدمهم لانهم يتكلمون العربية بطلاقة، اتذكر نشأت كان يتكلم عن مدرسة شمعون الصفا وعن ازقة الموصل( صْقاقات) وعراك الاطفال، وعمل طائرات الورق.

في احد الايام قام الطالب بولص ميخا بوكا بأداء اغنية نالت إعجابنا، اصبحت مفهومة لنا ليس بكلماتها بل بحركات يديه، اتذكر كانت عن المهن اليدوية وكيف يؤدي النجار او الحداد حركاتهم فيقول( النجار وكأنه يمسك منشاراً.... هيك يعمل دائماً) وكانت تلك لازمتها.


مشاهدات 130
الكاتب نبيل يونس دمان
أضيف 2025/01/03 - 11:25 PM
آخر تحديث 2025/01/06 - 5:24 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 499 الشهر 2785 الكلي 10092750
الوقت الآن
الإثنين 2025/1/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير