إشكالية اللغة والتعدّد اللغوي
فينوس فائق
حسب موقع معنى بدراسة اللغة ومتعددي اللغات، فإن من يتقن عدة لغات لديه شخصيات متعددة. أكاد أصدق هذا الكلام، تخيل أنك حين تتكلم بأي لغة أوروبية غير لغتك الأم إلى مستمع أوروبي، حينها تتقمص شخصية إنسان أوروبي، لأن اللغة التي تتكلم بها تفرض عليك شروطها التأريخية والإنسانية والثقافية، هذا الأمر يكون بشكل مختلف تماما حين تتحدث إلى ناطقي لغتك الأم فتعود إلى خصالك اللغوية، الإنسانية والثقافية الأصلية وهذه ميزة جميلة، بحيث يمنحك مختلف الفضاءات لتبحر بها بواسطة اللغات التي تتقنها. لكن هذه الميزة ستتحول في لحظة ما إلى إشكالية حين يتعلق الأمر بكتابة نص أدبي لقاريء غير قارئك الذي تربطك به قرابة اللغة. فحين تكتب نص أدبي، شعرا كان أم قصة أو رواية أوحتى خاطرة بلغة هي ليست لغتك الأم فأنت تبوح تلقائيا بما يختلج في صدرك وأفكار في ذهنك وتخاطب قاريء آخر بمزاج ثقافي مختلف وخلفية ثقافية وسايكولوجية قد تجهل بعضا من صفاتها، ينتظر منك نص يناسب توقعه الأدبي ويلامس سقف تذوقه الأدبي، فهي لغته الأم، وأنت «دخيل» عليه، إن جاز التعبير، بحصب البعضو «دخيل» بمعنى أنك تقدم له خلاصة ثقافتك في نص أدبي بلغته هو، وهنا تكمن المشكلة. مع أنني أجد في جانب إيجابي وهو أنك تحصل على مساحة مختلفة بخصائص لغوية أخرى للبوح الأدبي والتعبير عن ما يدور في ذهنك على شكل نص أدبي أو مقال أو حتى عمل فني على المسرح أو أمام الشاشتين الكبيرة والصغيرة.
خانة الادب
أتذكر في بداياتي الأدبية تعرضت لبعض النقد مفاده أنني وأنا الكوردية الأجدر بي أن أكتب بلغتي الأم، لأن الأدب الذي أنتجه لا يندرج تحت خانة الأدب العربي لمجرد أنه مكتوب باللغة العربية، وبطبيعة الحال لا يدخل خانة الأدب الكوردي لمجرد أن كاتبته كوردية ذات أصول كوردية. هذا الأمر ظل يقلقني لسنوات. وضعني أمام تحد كبير مع نفسي بالدرجة الأولى. فأخذت عهدا على نفسي وهو أن أطور من لغتي الكوردية، لتصل إلى مستوى لغتي العربية وأتمكن من أن أفكر وأكتب بالكوردية كما أفعل بالعربية.أما كون لغتي العربية أقوى من لغتي الأم فتلك حكاية ذات شجون، فأنا لم أختر لغة القراءة والكتابة، إنما في مرحلة زمنية معينة وفي بقعة جغرافية معينة فرضت علي بسبب عوامل سياسية وقومية كانت من أقوى العوامل في تلك الحقبة التأريخية لمحاربة شعب بأكمله من خلال لغته. فكنا نسمع بإستمرار أن لغتنا الأم تصنف ضمن قائمة الممنوعات، حتى كدنا ونحن صغارا نصدق تلك الأكذوبة لولا وعي آبائنا وسعيهم الحثيث لزرع بذور روح المقاومة أمام تلك المحاولات لمحو ثقافتنا. فقد إقتصر الحديث بلغتنا الأم داخل أسوار البيت، أما خارجه، في المدرسة، مكان العمل، الدوائر، وحتى المستشفيات ومراكز الشرطة ومختلف المحافل الأخرى فكانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية. أضف إلى ذلك كله أن والدي كان معلم للغة العربية، وأختير مع مجموعة كبيرة من معلمي ومدرسي اللغة العربية وتم إفاده إلى الجزائر ليساهم في حملة تعريب مدارس ومؤسسات ذلك البلد ويساعد قدر الإمكان في محو آثار الإحتلال الفرنسي للجزائر.
هنا بالذات بدأت أفكر وبعمق، إن شر البلية ما يضحك، ففي الوقت الذي كنا نترقب شاشات التلفزة بعد إتفاقية 11 آذار عام 1970 أو ما سمي آنئذ بإتفاقية الحكم الذاتي للكورد رغم صغر سننا وعدم فهمنا لمجمل ما يحدث حولنا، كان آبائنا يحلمون يرفع الحظر عن لغتنا وأن نتمتع ببعض الإستقلالية. لتأتي من بعدها إتفاقية الجزائر عام 1975 التي كان الهدف منها إخماد الكفاح المسلح وضرب كل طموحات الكورد بأرض الواقع لنصحوا على منظر البيشمركة وهم يلقون بأسلحتهم للنظام العراقي في ذلك الوقت، فلك أن تتخيل كيف كانت شعور الناس وهم يعودون إلى نقطة الصفر، ونعود لنلجأ إلى الكتب العربية لتثقيف ذواتنا، وخضوع طباعة الكتب الكوردية إلى ألف رقيب ورقيب، خصوصا ما يخص المحتوى، وما يخص الهدف من طباعة الكتاب..ألخ.. بحيث أن الكثير من الكتاب الكورد كانوا يلجأون إلى طباعة نتاجاتهم الأدبية على أجهزة إستنساخ بدائية على شكل ملزمات مستنسخة فتنتقل الملزمة من قاريء إلى آخر سرا. في ظل هذا الوضع لم يكن أمامنا سوى ما تتوفر من الكتب العربية في المكتبات. فلسنوات طوال كانت اللغة الكوردية مادة لا قيمة لها في المدارس مثلها مثل مواد الرياضة والفن والتدبير المنزلي وحتى الدين. فكانت تدرج في أسفل جدول الدروس وغالبا كنا نصرف إلى البيت. في هذا الوقت الذي لم نكن قد حصلنا على حقوقنا القومية كاملة سافرنا مع والدي إلى الجزائر ليساعد أهل الجزائر على تعلم لغتهم الأم «العربية»، وبذلك تعلمت وإخوتي اللغتين العربية والفرنسية، ولدى عودتنا واجهتني مشاكل جمة عندما أراد والدي تسجيلنا في مدرسة المفروض أن نظام التدريس فيها باللغة الكوردية، فواجهتني صعوبة الفهم، وصعوبة القراءة وصعوبة الكتابة أيضا.
من ضمن الفلاسفة الذين أولوا إهتمامهم للغة وفلسفة اللغة أو فلسفة اللسانيات هو ديكارت الذي يرى أن العقل هو أساس تصور إشكالية اللغة، حيث أن اللغة هي خاصية تقتصر على الإنسان فقط. عليه فإن قدرة الإنسان على الكلام بخلاف الحيوان الذي لا يمتلك هذه الخاصية يعود إلى إمتلاكه، أي الإنسان، للعقل. عليه تخيل أنك تتحدث لغة أخرى إلى جانب لغتك الأم أو أكثر من لغة، هذا يعني أنك تستخدم عقلك الظاهر والباطن مرتان أو أكثر، أكثر من الشخص الذي يتقن لغة واحدة. وهذا الأمر يتجلى بوضوح في الكتابة الأدبية، فكونك تكتب بلغة أخرى مختلفة عن لغتك الأم فأنت إضافة إلى ثقافتك القومية الخاصة فأنت على إطلاع على ثقافات أخرى بلغات أخرى. وبإمكانك مخاطبة الآخر بلغته، دون الحاجة إلى مترجم، وخصوصا أن قلة من المترجمين يوثق بترجماتهم حسب تجربتي الشخصية. لكن السؤال الجوهري هنا هو: من الذي يختار؟ هل أنا من أختار اللغة التي أكتب بها؟ أم أن الموضوع هو الذي يختار اللغة التي أكتب بها، أم أن اللغة تفرض نفسها حسب الموضوع؟ رغم أنني غالبا ما أتلاعب باللغتين في رأسي، فيحدث أنه يتبادر إلى رأسي فكرة قصيدة فأبدأ بتدوينها دون وعي أو قرار مني إما بالعربية أو في بعض الأحيان بالكوردية، وفي منتصف القصيدة أعرج إلى اللغة الأخرى لأكملها بها. ثم أترجم ما كتبت بالعربية إلى الكوردية، أو أترجم ما كتبت بالكوردية إلى العربية، وهكذا يصبح عندي قصيدتين بلغتين مختلفتين. لكن ماذا عن المحتوى والصور الشعرية؟ فهذه أيضا إشكالية كبيرة، حيث أن لكل لغة صفاتها وخصائصها الخاصة بها والتي تميزها عن باقي اللغات. إذ أن هناك صور شعرية تقال في لغة ما ولا تقال في لغة أخرى. وهذه الإشكالية تواجهني أثناء الترجمة من العربية أو الكوردية إلى اللغة الهولندية، فبسبب العمق الفكري وصورها الشعرية الباذخة في كل من القصائد الكوردية والعربية يصعب ترجمتها للغة الهولندية على سبيل المثال، لا لشيء وإنما لأن القاريء الهولندي لن يفهمها ولن يتفاعل معها.
عموما أنا تجاوزت فكرة أن اللغة العربية كانت أو ما تزال مفروضة علينا، كما أنني تجاوزت قلقي حيال إتقاني أو عدم إتقاني للغة بحد ذاتها حتى وإن كنت لغتي الأم، فالمسألة في النهاية ليست هل أنك تتقن لغة أو لا، إنما المسألة الأساسية هي هل أنت أديب أم لا؟ بغض النظر بأي لغة تبوح ما يجول بذهنك. ففي ظل الإنفتاح والمساحة الواسعة التي يمنحنا إياها التطور التكنلوجي ومواقع التواصل، وبمجرد تتمكن من إتقان أكثر من لغة إلى جانب لغتك الأم وتتمكن من قراءة النصوص الأدبية بها والكتابة الأدبية، فأنت مواطن كوني بدرجة إمتياز. لا تحتاج إلى وسيط لكي تقتحم الأوساط الثقافية الأخرى لمجرد أن لغتك الأم تختلف عن لغتهم. لن تضطر لأن تلجأ إلى الإطلاع على إرثهم الثقافي من خلال الترجمات أو تقدم لهم إرثك الثقافي من خلال الترجمات، تلك الترجمات التي في أغلبها – وليس كلها- لا تكون أمينة.