إشكالية الصراع بين حكام العراق ورجال الدين.. من المعبد إلى المشروطية في ولاية الفقيه
أحمد عبد المجيد
من النادر ان نحظى ببرلماني عراقي مولع بالدرس الاكاديمي أو شغوف بالتأليف، وجل اعضاء مجلس النواب السابقين واللاحقين، تشغلهم امور المال والجاه والبحث عن المناصب، فضلاً عن السجالات السياسية التي تسهم ، غالباً، في توتر الاوضاع الداخلية وتعمق الخلافات وتهدد الهوية الوطنية. وغالباً ايضا ما يعتلي هذا النوع من البرلمانيين، المنابر الدعائية في عرض تصريحاتهم الارتجالية السيئة التي تتصف بالعمومية والسطحية ولا تستند الى معايير وطنية او اخلاقية في ادب المنافسة الديمقراطية والنزاهة.
لكن ثمة استثناءات قليلة جداً تفرض مشروعها، بما يفيد الرأي العام أو يصحح الملابسات ويفك الاختناقات المذهبية والدينية والتاريخية، وذلك بالاستناد الى حصيلة معرفية واحاطة اكاديمية تساعد في تحليل المعطيات وتقديم رؤى علمية، لا يخفيها الباطل ولا يتسلل اليها الشك المطلق والريبة.
ولعل الدكتور نديم الجابري، الذي تمتد علاقتي الشخصية به الى عقد الثمانينات من القرن الماضي، وتمتد صلتي الاكاديمية به فيما بعد الى اليوم، واحداً من قلة نادرة من البرلمانيين الذين لم تشغلهم صراعات الحلبات السياسية وتفاقم الخلافات المصلحية، عن الدرس الاكاديمي والتأليف المعرفي. وبرغم انه شغل مقعداً نيابياً قبل دورتين، ثم غادره الى الحياة العامة، فأنه ظل مخلصاً للمهنة التعليمية التي تحدّر منها ومثابراً على ترجمة متطلبات الخدمة الجامعية، وهي شهادة جدارة يتحلى بها، الاساتذة الجامعيون، تتوج جهودهم العلمية المنصبة على تقديم الحلول العملية للمعاضل والمشكلات التي تواجه المؤسسات العامة ومنظمات الخدمة المجتمعية.
ائتلاف سياسي
وتابعت في وقت سابق كتاب أصدره بعنوان (العراق أول دولة في التاريخ)، وعرضت أهم ما تضمنته فصوله، في مقال نشر في (الزمان)، ورأيت ان الجابري قدم خدمة تتعالى على دوره البرلماني السابق، وربما لو كان مستمراً كغيره، في شغل مقعد مزمن في مجلس النواب، كما يحرص عليه سواه، لفقدنا قامة في العلوم السياسية نحن أحوج اليها من حاجة بلدنا الى برلماني لا يتمتع بالثقافة والخبرة والاداء اللازم، وكل فضيلة يمتلكها لا تتعدى كونه محسوباً على كتلة او ائتلاف سياسي يضع مصلحة افراده فوق مصالح المواطنين الذين توهموا فوضعوا ثقتهم بالكتلة او الحزب.
ولم تمض مدة طويلة، حتى فاجأنا الجابري بموسوعة ضخمة مؤلفة من نحو الف صفحة بعنوان (اشكالية الصراع بين حكام العراق ورجال الدين)، وقد اهداني نسخة منها مشكوراً، ملقياً عليّ واجب التعريف بها وعرض انطباعاتي عنها. وفور قراءتي الاولية لفصول هذا السفر، الذي يكفي الجابري ان يعده كشهادة على جدارته العلمية ودأبه الثقافي والوطني، وقفت متأملا جهوده المضنية في تأليفه والوصول الى النتائج غير المسبوقة، بالنسبة لموضوع حساس وشاغل أزلي بالنسبة لبلد تمتد حضارته لنحو سبعة الاف سنة. وربما يعد هذا الانجاز مغامرة علمية كبرى لولا اني متابع استقصائي لجهود الجابري، ونشاطه العلمي وتفوقه في اختصاصه الاكاديمي. وتكمن صعوبة انجاز مثل هذه الدراسات الاكاديمية التي وصفتها بالسفر، ليس في حجم المصادر المطلوب توفيرها وتعظيم معلوماتها حسب، بل في الوقت الواجب صرفه، خلال الانكباب على انجاز كل فصل من فصول الكتاب – الموسوعة، وصياغة الهيكلية المنهجية التي تتيح للمعلومات بالتدفق التدريجي والتواصل المنطقي، وصولاً الى المخرجات، وهي النتائج أو الاستنتاجات في نهاية أيه دراسة أو عمل بحثي.
واذا كان الجابري قد تتبع جذور الاشكالية الواردة في عنوان هذا السفر، فاني استطيع التأكيد بيقين تام، انه كان يهدف الى الوصول بالجذور الى الواقع القريب وربما الأقرب الى شيوع هذه الاشكالية، حيث عشنا ارهاصات الاشكالية وأمضينا عقوداً في تداعياتها والخسائر النفسية والاجتماعية الناجمة عنها، ثم عايشنا اثارها الراهنة على واقع العملية السياسية في البلاد، والاخفاقات الناجمة عنها، وهي حالة ينفرد بها العراق عن سواه من البلدان الاسلامية، بخصائص فكرية وسلطوية وبنائية من حيث فلسفة الحكم وطروحات القائمين على مفاصله والمدعين بأحقيتهم فيه.
ويستعرض المؤلف الجابري جذور الصراع بين الطرفين منذ بدايات الاحتكاك بين الحكام والمعبد في العراق القديم مروراً بالعهود التالية في حقبتي الملكية والجمهورية، وصولاً الى الصراع السياسي بين حكام البعث ورجال الدين، ثم يلخص الأهمية في فهم طبيعة هذا الصراع وتحديد أبعاده، يساعد في تفسير التقلبات السياسية والحركات الاحتجاجية التي تحدث في البلاد.
كما أنه يساعد على تفسير السلوك السياسي للجماعات الدينية والسياسية على حد سواء.
وإن البحث في هذا الصراع، يكشف عن الآليات التي يشكل فيها الدين دوراً أساسياً في العراق، ويساعد على تحليل علاقة رجال الدين بمؤسسات الحكم، ويكشف عن حدود تدخلاتهم في الشؤون السياسية، الأمر الذي يساعد في مناقشة كيفية تحقيق توازن بين الدين والسياسة. ويرى المؤلف من خلال دراسة هذا الصراع، يمكن فهم تأثير الأيديولوجيات الدينية المختلفة على السياسات العامة، وكيفية اتخاذ القرارات.
وقد يكون لرجال الدين تأثير قوي في دعم أو معارضة قضايا معينة، مما يجعلهم جزءاً حيوياً من عملية صنع القرار في العراق. وإن الإدراك الواعي والدقيق لطبيعة هذا الصراع، يساعد في وضع سياسات عامة أكثر فاعلية، تراعي التوازن بين السلطات السياسية والدينية، وتسهم في تعزيز قواعد الحكم الرشيد، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار.
حريات شخصية
كما أن البحث، وفق رؤية المؤلف في هذا الصراع، يساعد في فهم الكيفية التي تؤثر فيها قضايا التعليم والحريات الشخصية ومركز المرأة، والتنوع الثقافي، على الحياة اليومية للمواطنين. وإن البحث الأكاديمي لهذا الصراع، يسهم في توعية المجتمع بأهمية النقاش بين الدين والسياسة، ويساعد على تحديد دور كل منهما في حياة المواطنين. كما أنه يدعم جهود بناء مجتمع مدني يدرك حقوقه ومسؤولياته تجاه السلطات العامة في البلاد. أضف إلى ذلك، إن فهم طبيعة هذا الصراع، وتحديد أبعاده، يمكن أن يساعد في وضع آليات عمل دقيقة من شأنها تنظيم العلاقة بين حكام العراق ورجال الدين بشكل مناسب، يحفظ مكانة الطرفين ويرسم دورهما بعناية وبالتالي يساعد ذلك على تعزيز الوحدة الوطنية.
وفـــــــي نظري ان ميزة اساسية يتصف بها هذا السفر، قد يعــود الفضل الاول فيها الى مهارة الصياغة لدى المؤلف واعتماد لغة عقلانية دافئة غير مشحونة، برغم سخونة الموضوع وضغطه النوعي على مجريات الحوادث والوقائع، هي وضوح الرؤية وسلامة المعالجة، بحيث يستطيع القارئ ان يحصل على افادات عديد عن الاستفهامات ولاسيما ما يتعلق بمفهوم ولاية الفقيه لدى المرجعيات الدينية والاحزاب السياسية كحزب الدعوة الاسلامية، بأجوبة قدمها الجابري متبلورة عن التحليل العميق والشهادة الصادقة، ولاسيما ما يتعلق بموقف بعض رموز الحوزة العلمية في النجف ازاء فكرة الولاية ، التي تشغل الرأي العام الاسلامي وتكتنفها ملابسات وتقولات حادة احياناً.
ان الجابري قدم خدمة جليلة للباحثين عن فهم ايجابي ازاء اشكاليات الصراع بين حكام العراق ورجال الدين، كللها بتوضيح معظم الجوانب الغامضة وسلط فيـــــــــها الاضواء على المناطق الرخوة والمعتمة بحيث يصل الى قناعة واضــــــــــحة مؤداها ان المؤلف عالج الموضوع بطريقة مخــــــــــــــتلفة، وان ما يميز الصراع في الحالة العراقية انه لم ينقطع، وان رجال الدين لم يتمكنوا عبر العصور من تســـــــــــلم السلطة السياسية في العراق بشكل منفرد، كما جرى في تجربة ايران أو غيرها في السابق وتجربة افغانستان في اللاحق.