بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية.. لغتنا العربية في عالم متغير
عصام البرّام
القاهرة
تحتل اللغة العربية مكانة بارزة في العالم اليوم، من الناحية الثقافية والسياسية، وكذلك في سياق الحوارات العالمية، كما تكمن أهميتها أيضاً، من خلال عدة نواحي، ففي المجال الثقافي؛ تعد الوعاء للثقافة العربية والأسلامية، وحاملة للتراث والحضارة، وتحمل إرثاً غنياً من الأدب والفنون والشعر والفلسفة، كما تضم نصوصاً أساسية وهو كتاب الله القرآن الكريم، الذي يعد مصدر إلهام لملايين البشر. فاللغة العربية جسراً للتواصل الثقافي، ووسيلة لفهم ثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما يعزز التفاهم الثقافي بين الشعوب، كما تعد مصدراً للإبداع في الأدب والشعر، فهي لغة إبداع أدبي، حيث تُعد من أكثر اللغات بلاغة، التي أثّرت في الأدب العالمي، لتمثل عنصراً وعاملاً رئيساً في بناء الهوية الوطنية والقومية لدى المتحدثين فيها.
أما من الناحية السياسية؛ فتعد اللغة العربية واحدة من اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، مما يجعلها جزءاً أساسياً من الدبلوماسية العالمية، فالدول العربية تستخدمها كأداة للتأثير السياسي، وكوسيلة لإيصال رؤيتها ومواقفها في المنتديات الدولية، مما يزيد من قوتها الناعمة، فضلاً عن دورها في بناء التحالفات، فهية تعزز التفاهم بين الدول العربية وتدعم العمل المشترك في الجامعة العربية، كذلك المنظمات الدولية، منها الحكومية وغير الحكومية.
أما في الحوارات العالمية، فاللغة العربية تُسهم في تعزيز الحوار بين الحضارات المختلفة، خاصة بين العالم الإسلامي والغرب، فاللغة تعد وسيلة لنشر قيم التسامح وثقافة السلام واللاعنف، وذلك من خلال دورها في الأدب والفن والدين والإعلام والسياسة، كونها أداة أساسية للتواصل مع الملايين من الناطقين بها، مما يفتح أفقاً أوسع لفهم تطلعاتهم وقضاياهم، فضلاً عن التواصل مع الجاليات المتعددة في العالم.
إن تزايد الأهتمام العالمي بالشرق الأوسط، وأكتساب الدول العربية أدواراً مؤثرة في الاقتصاد والسياسة الدولية، تزداد أهمية اللغة العربية كلغة للتواصل وفهم العالم العربي، وللحفاظ على اللغة العربية يتطلب الإجابة عن سؤالين مهمين؛ كيف، ولماذا نحافظ عليها؟ وللبحث عن الكيفية، فأن التريية والتعليم تأتي بمقدمتهما، حيث تعُدان الأساس للحفاظ على اللغة العربية، وذلك من خلال تدريسها بشكل جاد وإعطاءها الأهمية في المناهج الدراسية منذ الصغر، مع تشجيع وتعزيز الإستخدام اليومي في القراءة عليها؛ من خلال القصص والكتب الممتعة الخاصة للأطفال، وجعلها محببة اليهم من وقت مبكر. كما ينبغي إستخدام اللغة في الحياة اليومية، سواء في الحديث أو الكتابة أو الإعلام أوالحوارات الأخرى، كذلك تنمية الإحساس بالفخر بالهوية الثقافية من خلال تعزيز دور الأدب العربي والشعر والتراث الثقافي في المناهج وفي الحياة العامة. ومما لاشك فيه، فأن الإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، فرصة مناسبة وكبيرة في أستثمارها من خلال إقامة الأنشطة الثقافية، وتكريم مبدعيها والإحتفاء بهم، ودعم الكتابة الإبداعية والنشر في مجالات الأدب والصحافة والإذاعة والتلفزيون، وإنشاء محتوى إعلامي وبرامج ترفيهية تستهدف الأجيال الجديدة وما تواكب من تطورات حضارية، في التكنولوجيا والمحتوى الرقمي، حيث ينبغي تطوير أدوات تقنية لدعم اللغة العربية، مثل تطبيقات الترجمة العلمية، وكسب غير الناطقين بها، بتشجيعهم على تعلم لغة العرب وبيان دورها عبر العصور وما حملت من نتاج فكري وعلمي وأثّرت الحضارة الإنسانية. فضلاً عن تشجيع البحث العلمي فيها، وتقييم الباحثين الذين يقدمون نتاجاً يرتقي الى مرحلة العصر.
أما الاستفهام الثاني، لماذا نحافظ على اللغة العربية؟
فاللغة العربية تمثل الهوية الثقافية والدينية والتأريخية، وهي جزء لا يتجزأ من هوية الشعوب العربية والإسلامية، حتى غير المسلمين الذين يعيشون على أرض العرب منذ الأزل. كما أنها تعد لغة العرب، فهية تحمل تأريخاً غنياً وتراثاً أدبياً وفكرياً أغنى تراث الإنسانية، ووسيلة للتواصل بين سكان يمثلون أكثر من سدس شعوب العالم، لذا هي تعزز الوحدة الثقافية والإجتماعية والروابط التأريخية، وكما أشرنا الى إنها إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، لما لها من دور عالمي، ففي مجالي الإبداع والتفكير، فأن اللغة العربية تتيح مرونة فريدة في التعبير والإبداع، مما يجعلها قادرة على مواكبة العصر، أي تعتبر من اللغات الحيّة والنابضة من بين أكثر اللغات بالعالم.
كما تلعب دوراً محورياً في الحفاظ على التراث الثقافي العربي والإسلامي عبر الأجيال، وذلك من خلال مجموعة من الجوانب المهمة؛ فهي الركيزة الأساسية لحفظ هوية الشعوب العربية الثقافية، والوسيلة التي من خلالها يتم توارث القيم والتقاليد والعادات بكل فروعها وأشكالها، ولها دوراً في توثيق الأحداث والمعارف الإنسانية، فمن خلالها يتم توثيق الآداب والفنون والعلوم والمخطوطات، التي تشهد بذلك كمرجع أساسي لفهم التراث الإنساني، أضافة الى دورها في نقل الدين الإسلامي، فكتاب الله القرآن الكريم، كُتب باللغة العربية، ولغة الحديث النبوي الشريف، مما يجعلها وسيلة لنقل التعاليم الدينية وحفظها.
فضلاً عن حفاظها على الأرث العربي، فالأدب العربي بما في ذلك الشعر الجاهلي والمعلقات والقصص والروايات والتراث الشعبي، ما هو إلا تعبير عن تجربة الإنسان العربي وثقافته عبر العصور. فاللغة كانت هي الأداة التي حملت هذه الأعمال وجعلتها خالدة، وعززت التواصل بين الأجيال، ومن خلالها تنتقل القصص الشعبية والأمثال والحكم والترابط الثقافي بين الأجيال، وساهمت في فهم مشترك للهوية الوطنية، فضلاً عن لعبها في إحياء الاحتفالات والمناسبات الدينية والثقافية خاصة في شهر رمضان، والعيدين الفطر والأضحى، حيث تعتمد هذه المناسابات بشكل كبير على النصوص العربية، وما يُكتب من سيّر وحكايات.
التحديات التي تواجه اللغة العربية
تعد العولمة من أهم التحديات التي تواجه لغتنا العربية، ففي خضم التطورات الإتصالية الرقمية، التي تقف على رأسها منصات التواصل الاجتماعي، أدى الى تراجع الكثير من الأجيال الحالية بعدم آستخدام العربية في الحياة اليومية؛ (عقدة الخواجة) والتحاور إما بالمفردات الانجليزية أو أو باللهجة الدارجة في الحوارات من خلال ما يعرف بمصطلح (الجات) التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير طبيعي، مما قاد ذلك الى التهاون بالعربية، ناهيك عن ضعف الإهتام بالتعليم باللغة العربية في الكثير من دولنا العربية في بثها للبرامج الإذاعية والتلفزيونية، التي تخاطب فيها برامج الأطفال والشباب، فكل دولة تخاطب أجيالها بلهجتها العامية، وكان من المفترض على القائمين المسؤولين والعاملين في هذا المجال، التركيز على اللغة وأعطاءها أهميتها ودورها الواسع، بتشجيع جيل الشباب عليها، من خلال إقامة المهرجانات الشعرية أو الخطابية وبكل ما يتعلق بالعربية وآدابها، ومنحها أهمية تعلمها في المدارس، وتشجيع إنتاج محتوى إعلامي وثقافي جذاب بالعربية، فضلاً عن دعم المبادرات التي تروج لقراءة الأدب العربي وحفظ المخطوطات؛ لتظل اللغة العربية جسراً يعبّر من خلاله عن التراث نحو المستقبل.
كما ينبغي الأخذ بنظر الإعتبار، تأثير اللغات الاجنبية على اللغة العربية، الذي يعد جزءاً من التفاعل الثقافي واللغوي بين الشعوب، فهذا التأثير يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً، إذ يعتمد على السياق وطريقة تعامل المجتمعات معه، فهنالك وجهان أو نوعان من التأثير، منها تأثيرات إيجابية أوسلبية، أما الإيجابية؛ التي تثري المفردات بكلمات أجنبية الى اللغة العربية؛ لتلبية الحاجة الى مفردات تعبّر عن مفاهيم جديدة أو تقنيات حديثة، كذلك نتيجة لتطور المجالات العلمية والتقنية المعاصرة، من خلال إستخدام المصطلحات الأجنبية في الأبحاث العلمية والجامعات، حيث يساعد في تعلم اللغات الأجنبية ودخول مفرداتها على توسيع آفاق التواصل الثقافي والإنفتاح على العالم.
أما في الجانب السلبي، فيؤدي إستخدام كلمات أجنبية بدلاً من الكلمات العربية المتاحة، مما يقود الى إضعاف اللغة العربية وإهمال مفرداتها، وما يعرف بالإقتراظ المفرط للمفردة الاجنبية، فالاستخدام العشوائي للكلمات الأجنبية يؤدي الى تشويه الهوية اللغوية، وطمس معالم الهوية الثقافية العربية، خاصة لدى الأجيال الشابة والمعاصرة، فضلاً عن التبعية اللغوية التي تأتي من الإعتماد المفرط على المصطلحات الأجنبية، مما يؤدي الى فقدان اللغة العربية هيبتها وقدرتها على التعبيرعن المفاهيم الحديثة، الذي يولّد الشعور بأحساسنا بالتبعية.
وبغية مواجهة التأثير السلبي، ينبغي تعريب المصطلحات من خلال آستخدام مفردات عربية مقابلة للكلمات الأجنبية، تعريباً لا حرفياً، وهنا يأتي دور وسعي جهود مجاميع اللغة العربية، مع منح التعليم باللغة العربية بتشجيع إستخدامها في كافة المراحل الدراسية والعلمية، ورفع قيمتها والوعي الثقافي فيها، بنشر أهميتها ودورها في الحفاظ على الهوية الثقافية، كما ينبغي تشجيع الإبداع اللغوي بدعم الأدباء والمبدعين لتعزيز آستخدام اللغة العربية في جميع المجالات. إن تأثير اللغات الاجنبية على العربية يمكن أن يكون فرصة لتطوير اللغة لا العكس، إذا تم التعامل معها بشكل واعي وعلمي ومدروس، بدلاً من أن يكون تهديداً للهوية الثقافية أو الانتقاص من اللغة العربية الأم.
ويبقى الحفاظ على اللغة العربية، هو مسؤولية فردية وجماعية تقف ورائها مؤسسات رسمية وغير رسمية، تتطلب تظافر الجهود من الأفراد والمؤسسات؛ لتحقيق هذا الهدف النبيل، التي قد تتعرض لهجمات وتحديات واسعة ومختلفة في المستقبل.