وأفتح هذا الباب بواحد شاعر بديع من أهل البصرة هو كاظم الحجاج وفق ما تبقى من عتيق الذاكرة ، إذ جاء على معنى لم يسبقه إليه أحد ربما ، حيث شكى وبكى وقال أنه لم يكلف الله طيناً كثيراً فهو ضئيل الجسد صغير البطن مستقيماً مثل نخلة .
أما صاحبي العموني النبيل أحمد طمليه ، فلقد تناوح وساح وذهب بعيداً وغطى عائلته الكبرى بدثار من وجع وشكوى وزاد أنه من بيت محتشد لا يمكث طويلاً على الأرض ، وعند باب الخمسين أو وشلها فإن آل طمليه الكبير ، سيلاقون ربهم الجليل الرحيم العظيم ، بإمتنان ورضا وهم من غير المتطلبين .
بذاكرتي يلمع الليلة الشاعر الصعلوك الجميل طالب السوداني ، وقد أخذته قدماه ودعبلته صوب سوق شعبية رخيصة بواحدة من خواصر عمون ، وكان لقاؤه الأول عند مفتتح السوق ببسطية مبللة صغيرة نامت فوقها بهدوء ونعاس سمكتان صغيرتان ، ففاصل البائع على شراء إحداهن ، ولسبب مجهول المزاج والنية رفض مالك البسطية بيع طالب سمكة واحدة وأصر على صفقة ثنائية الحراشف صحبة تهبيط كريم . قيل أن طالب أخرج بطانة جيبه وأشهر خردة حديدية من عملة سهلة وأقنع الرجل بشراء واحدة فقط ، وزاد في التلقائية والتضحيك والتنكيت والترطيب ، أنه بصدد شراء سمكة يا زلمة وليس زوج قنادر لا انفكاك بينهما .
وبرأسي الليلة القائمة على حيلها الآن ، يلبط ويلوب صاحبي الراوية القصخون جمال القيسي وقد جمعتني به مائدة طيبة ذات لغوة قليلة بحانة الشرق المزروعة بسرة البلد .
شربنا على مهل من صفاء حداد الذهبي ثم تسلطنا وتناوحنا مع الأسطورة الأرضية أم كلثوم وشيء من العبقري عبد الحليم حافظ ، وعندما حانت رنة الكأس الأخيرة سألني مضيفي جمولي عن مقترح صينية باجة وكوارع ، فقلت له مزحاً وشهوة أن هذا الصحن العجيب ينتظرنا الآن بمطعم الحاتي ببغداد العزيزة المفتقدة .
هبطنا درج الحانة الأحدب وعبأنا جسدينا الثقيلين بسيارته المارسدس المعتقة بقوة سبعين أسداً وعشيرة أحصنة ، وكانت وجهة الكاتب المجنون شرقاً صوب بغداد .
على مبعدة شمرة عصا من معبر ومنفس طريبيل الرافديني الشهير ، طار العرق من الرأس وعاد العقل إلى نصابه واستدار الولد عائداً ، وفي الطريق بزغت فكرة الفطور بدمشق ، فداس جمال على مداس الوقود منتشياً ، حتى تم إجهاض الفرحة بسبب شرطي سوري جهيم لم تعجبه خلقتي ولحيتي وابتسامتي الباهتة الباردة البائنة بجواز السفر ، فرجعنا إلى عمون الطيبة بكثير خيبة وقليل ضحك ، عند وجه صباح رائق ونفحات من دحنون وجوري ونحاسية فول مذهلة .