حسن النواب
في منتصف التسعينيات، دعاني الشاعر الصعلوك صباح العزاوي إلى منزلهم؛ حين كنتُ حائراً في ساحة الميدان؛ إذْ طردني نادل فندق الصيَّاد ذات ليلة شتاء ممطرة، لأني لا أمتلكُ أجرة المنام. وجدني صباح أغفو على المصطبة، فأخذني معهُ، كان منزلهُ في مكان ما، لا أتذكرَّهُ لأني كنتُ مُرهقاً، وحتى عندما صحوت عند الصباح، فشلتُ بمعرفة موقع بيتهم لأني من مدينة كربلاء. في تلك الليلة أكثر ما آلمني هو عندما كان صباح ينتقلُ من مكان إلى آخر، فقد تخلَّى عن قدمه الصناعية وصار يقفز أمامي مثل جَديٍّ ليجلب شيئاً من المطبخ لنكمل سهرتنا. كان ضماد قدمه المبتورة قاتماً من كثرة ما تراكم عليه من دخان وأوساخ العاصمة بغداد؛ وكدتُ استشعر أنَّه سيموت أمامي لفرط ما شرب من خمر كان قد ادَّخَرهُ. بل شعرتُ بالخوف؛ أنا الذي خضتُ حربين شرستين، هالني وميض النار في عينيه، وهيجان أفكاره؛ كان موتوراً بطريقة مرعبة، فسألتهُ بحذر كبير:
- صباح هل تشعر بالندم لأني أجلس معك الآن؟
انهمر الدمع من عينيه بطريقة أبكتني، وقال:
- أشعر بالارتباك، لأنَّ ضيافتي لا تليق بشاعر معذَّب مثلك.
عن أُغنية كيفك أنت
استمعتُ لهذه الأغنية لأولِّ في منزل صديقي الشاعر سعد جاسم. كُنَّا في مهرجان شعري أقيم في مدينة النجف عام 1992، وقد كانت ضيافتنا في فندق زمزم، عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كانت هناك مائدة حافلة بابنة الكروم والجنون، وكان حول المائدة مجموعة من الشعراء الصعاليك بينهم كزار حنتوش والشاعر السوداني العذب يوسف الحبوب، بعد مضي ساعة اقترحتُ عليهم الذهاب إلى بيت سعد جاسم، لا أتذكر من كان معي عندما اكترينا سيارة أجرة إلى منزلهِ في الحلة. كان مقترحي حافلاً بالمغامرة والجنون؛ لكن الذي أذكره أنَّ صديقي يوسف الحبوب السوداني والذي كنتُ أعرفُ أنَّهُ من البعثيين كان معنا في الرحلة؛ خلال الطريق بدأ الشعراء الصعاليك بشتم صدَّام وحزب البعث، فشعر الحبوب بالخطر، لكني وضعتُ يدي على قلبه؛ فهو صعلوك حقيقي ومن طراز خاص، فشعر بالأمان لوجودي معهُ، عندما وصلنا إلى الحي الذي يسكنهُ صديقنا سعد جاسم، أبى سائق المركبة من الدخول في الزقاق نتيجة سوء الطريق؛ إذْ كانت الأمطار قد أحالتهُ إلى بِركة من الطين، تركنا المركبة وقد عزمنا الوصول إلى منزله مهما بلغت بنا الخسائر، في منتصف الزقاق خلعنا أحذيتنا لأن الطين أكلها، وحين طرقنا باب منزله؛ فوجئ بثُلة من أصدقائه الصعاليك وقد نال وحل المطر من ثيابهم. وبابتسامةٍ غارقة بالدهشة والذهول والحب استقبلنا، كان الفجر على وشك الانبلاج بنوره للناس؛ فرش غرفة الاستقبال وجاء بما لديه من طعام، وجلسنا نشرب أنخاب ابنة الكروم؛ إذْ حملنا معنا ما يكفي لهذه السهرة، ومع صخب الأحاديث والضحكات، ضغط سعد جاسم على زر آلة التسجيل؛ فانبعث صوت موسيقى ساحرة أسمعها لأول مرة ثم فوجئت بصوت فيروز الملائكي تغني كيفك أنت.. طلبتُ منهُ إعادة الأغنية في تلك الليلة عشرات المرات، وها أنا أسمعها الآن في مهجري البعيد وثمَّة عبرات تستعر في قبو ذاكرة الصعلوك.