إن من البدهيات التي كانت تميز المشهد العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحظى برواج كبير لدى شعوب المنطقة، فكرة الأمن القومي العربي.
ولم يكن مثل هذا الأمر غريباً أو مفتعلاً، بل كان حاجة ملحة، لأن أي خرق أمني واسع النطاق في دولة ما، يهدد الدول الأخرى المحيطة بها، واي عدوان خارجي على بلد، ينذر بامتداده إلى سواه، فالحروب التي خاضها العرب في فلسطين مثلاً لم تقتصر على جبهة واحدة، بل امتدت إلى جبهات عديدة.
كان مفهوم الأمن القومي هذا يعني أن هناك أصدقاء في هذا العالم، مثلما أن هناك أعداء، ولا بد أن يتعامل العرب بطريقة سليمة مع هؤلاء، فلا استفزاز لصديق، ولا مهادنة مع عدو، وإذا ما غير أحدهم رأيه، لقي ما يناسبه من ردود الأفعال.
وأذكر مثلاً أن ألمانيا (الغربية) أمدت إسرائيل بدبابات وزوارق حربية عام 1965، بشكل سري، فلما تسربت أنباء الصفقة إلى البلاد العربية حدثت ضجة إعلامية كبيرة، أدت إلى قطع العلاقات معها، لكن ألمانيا لم تتراجع عن موقفها، وكان أن قام العرب بالاعتراف بغريمتها ألمانيا (الشرقية) ، فاستشاط الألمان الغربيون غضباً ولم تعد العلاقات إلى سابق عهدها حتى وقت طويل، ولا حاجة للقول أن الدول التي اتخذت هذا القرار كانت تنتمي للمعسكر (التقدمي) الذي رفع شعار الأمن القومي، مثل العراق وسوريا والسودان ومصر واليمن الجنوبية، أما الدول المحافظة فلم تجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة، مع دولة (شيوعية) كافرة!.
ما هو جدير بالانتباه أن هذه الدول كانت تمارس نوعاً من التضامن مع بعضها البعض، لأنها تدرك أنها مهددة دائماً، وأن في الاتحاد قوة، وكانت تردع بذلك القوى التي هيمنت عليها في حقبة الاستعمار، وتدفع عن نفسها الأذى والعدوان، وهو ذاته مفهوم الأمن القومي العربي، حتى الدول التي كانت تتخوف من الانضمام لهذا (المعسكر) كانت تشعر في قرارة نفسها بالإهانة في مثل هذه المواقف، لكنها كانت تكتفي بالتنديد واللوم والعتاب!.
في ما بعد نسي الناس فكرة الأمن القومي، بعد أن تصالحت بعض البلدان مع العدو، ومالت إلى قوى الاستعمار القديم والحديث، فمثل هذه الفكرة مشروطة بسلوك ثوري يؤمن بالتحرر والوحدة، ولا يتساهل مع منطق الهيمنة الغربية، وقد تبدد هذا السلوك بمرور الوقت، نتيجة متغيرات سياسية وفكرية أصابت العرب والعالم، مثل الحروب العراقية العبثية، وتفكك المعسكر الشرقي، واتفاقات أوسلو، وسوى ذلك من الأمور. وليس ثمة من يكترث اليوم لأمن بلاد أخرى، حتى لو كانت عربية، ولا يهمه إن كانت هذه الدولة تقاوم العدو أو تتصالح معه. فالمسألة بالنسبة إليه لا تعني إلا أصحابها.
ومع ذلك فإن التيار الذي يجد في التضامن والتآزر ووحدة الساحات أموراً حيوية، مازال موجوداً، وهو ينطلق من رؤية واضحة، ووعي عميق، ويدرك أن الهدف من العدوان الخارجي هو في الأساس إعادة السيطرة على البلاد العربية، حتى لو كان ذلك بأسلوب جديد، وطريقة عصرية.
لقد انقسم العرب الآن على محاور، لكل منها رؤيته الخاصة للأمن القومي، ومازالت المواجهة مع العدو الأول قائمة حتى اليوم، فهناك مقاومون يتوسلون بشتى الطرق والأساليب بما فيها السلاح لردعه، وهناك مطبعون وأصدقاء له، وهناك من لا علاقة له بالموضوع من قريب أو بعيد!.
هل يمكن أن تتطور مفاهيم تتعلق بالمصير والمستقبل والطموح بهذه الصورة، فينقسم الناس بشأنها إلى مؤيد ومعارض ومحايد؟ وهل يفرط المجتمع بأهم عوامل وجوده وهو الأمن على هذا النحو؟ مهما يكن الجواب فإن الأمر قد وقع بالفعل، ولات حين مناص!.