الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ديني لنفسي ودين الناس للناس


ديني لنفسي ودين الناس للناس

حيدر عبد الرحمن الربيعي
 

تأمل في قول الحلاج
 

في الأيام الأخيرة، ظلّت جملة الحلاج العميقة «ديني لنفسي ودين الناس للناس» تتردّد على قلبي مرارًا، وكأنها جرسٌ داخلي يوقظني من غفلتي، ويدعوني لأغوص في بحر معناها. هي ليست مجرد عبارة قالها صوفيّ في لحظة وجد، بل نافذة تُطل بنا على سرّ العلاقة بين الإنسان والسرّ الإلهي، بين الفرد والجماعة، بين الظاهر والباطن. ومن هذا النداء الروحي أردت أن أكتب هذه المقالة.
 

الدين بوصفه رحلة إلى الداخل

حين نتأمل قول الحلاج: «ديني لنفسي»، نسمع صدى الحرية الداخلية التي لا يعرفها إلا السالكون في درب العشق الإلهي. الدين هنا ليس قيدًا، بل رحلة روحية تتشكل في أعماق القلب. إنه صلاتك التي قد لا يراها أحد، دموعك التي تسكبها في الليل، تسبيحتك التي لا يسمعها غير الله. هو الدين الذي يولد من التجربة الخاصة، من معاناتك وفرحك، من أسئلتك وأشواقك. كأنك تسير في بحرٍ بلا ضفاف، يحمل قلبك على أمواج السرّ والنور.

الدين بوصفه نظامًا للناس

لكن الحلاج لم يُلغِ الجانب الاجتماعي. حين قال: «دين الناس للناس»، كان يذكّرنا أن للجماعة دينًا يحفظ وحدتها، ويقيم صلاتها، ويضبط إيقاع حياتها. هو الدين الذي نراه في المساجد والطقوس والاحتفالات، في أعراف البيوت وفي تقاليد المجتمعات. هو الدين الذي يحفظ للجماعة شكلها، لكنه لا يكفي وحده لمن أراد أن يتذوّق أسرار الروح. إنه كالقالب الذي يحتضن العجين، لكنه لا يمنح الطعم ما لم تُسكب فيه نار التجربة.

جدلية الظاهر والباطن

كأننا أمام جدلية أبدية: ظاهر الدين وباطنه. الظاهر هو قانون الجماعة، والباطن هو سرّ الفرد مع الله. كلاهما ضروري: فالظاهر يحمي الناس من الفوضى، والباطن يحمي الروح من الجفاف. لا معنى لطقس بلا روح، كما لا معنى لروح ترفض أن تجسّد نفسها في سلوك وأخلاق. إنه مثل القمر والشمس: أحدهما ينير الليل، والآخر يضيء النهار، ولا تكتمل دورة الكون إلا بهما معًا.

الحرية والمسؤولية

في قول الحلاج نبرة صريحة عن حرية الضمير. فالإيمان لا يُفرض، بل يُكتشف. لا يولد من ضغط الناس بل من صفاء القلب. ومع ذلك، فإن احترام دين الناس واجب؛ لأننا لسنا أرواحًا معلّقة في الفراغ، بل بشرًا نحيا في مجتمع. فحريتك لا تعني أن تحتقر ظاهر الناس، كما أن ظاهر الناس لا ينبغي أن يصادر حريتك. هي معادلة كالجمر والنور: سرّك يتوهّج في الداخل، لكن دفؤه يصل إلى الآخرين.

المعنى في زماننا

في زمن امتلأ بالانقسامات حول الدين والهوية، يأتينا الحلاج من عمق التاريخ ليذكّرنا:
- أن الدين في جوهره صلة حية مع الله، لا مجرد بطاقة تعريف اجتماعية.
- وأن لكل إنسان أن يسلك طريقه بصدق، دون أن يفرض تجربته على الآخرين.
- وأن الجمع بين الحرية الفردية والاحترام المتبادل هو السبيل للسلام الروحي والاجتماعي معًا.
كأن الحلاج يضع بين أيدينا مرآة من نور، ليرينا أن الطريق إلى الله واسع، وأن الأرواح لا تتشابه كما لا تتشابه قطرات المطر.

خاتمة وجدانية

قول الحلاج ليس عزلة ولا تمردًا، بل دعوة إلى التوازن: أن تحفظ سرك لله وتترك للناس ظاهرهم. أن تعرف أن لك قلبًا يتوضأ بالدمع، ولسانًا يتلو مع الجماعة. أن تفصل بين ما يخصّ روحك وما يخصّ المجتمع، فلا تذوب كليًا في الناس ولا تنغلق كليًا عنهم.

وهكذا يصبح الدين عند الحلاج جسرًا مزدوجًا: من القلب إلى الله، ومن الإنسان إلى الناس. فـ«ديني لنفسي» يعني أن لي سرّي الخاص، و«دين الناس للناس» يعني أنني أحترم ظاهرهم ونظامهم. وبين الاثنين، تنبض حياة المؤمن: روحًا حرة وجسدًا مسؤولًا، عشقًا فرديًا وعطاءً جماعيًا.


مشاهدات 477
الكاتب حيدر عبد الرحمن الربيعي
أضيف 2025/09/20 - 12:07 PM
آخر تحديث 2025/10/05 - 3:54 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 139 الشهر 2839 الكلي 12042694
الوقت الآن
الأحد 2025/10/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير