أذن وعين
موت الساسة أم موت السياسة؟
عبد اللطيف السعدون
يخيل للمراقب المحايد وهو يتابع حمى الانتخابات البرلمانية المتصاعدة أن ثمة موتا معلنا للسياسة بمفهومها السائد في كونها فن التعامل مع الشؤون العامة سواء كان اللاعب في الحكومة أو في المعارضة، والحال أنك أن تشخص مشكلة، أن تضع لها حلا، أن تحقق مصلحة عامة، ان تشارك في القرار، وأن تحترم الآخر الذي يجرب حظه مثلك، فهذا كله سياسة، لكنك لو رصدت ما يجري في العراق لن تجد شيئا من هذا القبيل، وقد يخطر في بالك أن تستعير من ابن خلدون أن الناس هناك يتبادلون الأكاذيب والمكائد والخديعة حيث يتخلق كل من المرشح والناخب بما يفسد البصيرة ويضعف الرؤية على التمييز بين حدي السيف.
هذا هو ما يحدث في العراق اليوم، ظاهرة عجز عن فعل سياسي ممنهج ورصين حيث يعد كل ما يفعله المرشح أو الناخب او الأطراف الأخرى مؤشرا على موت السياسة وخارج دائرة العقل السياسي السوي.
مطالب رخيصة
يبيع الناخب صوته مقابل كيس بطاطه أو «بطانية» أو بضع دولارات، وتطلعاته تنحصر في جملة مطالب رخيصة وتافهة، بطاقة هاتف نقال، أو سفرة الى مرقد ابنة الحسن، أو وقود مجاني للمولدة، أو حتى سلة خضار تكفي الأسرة لأسبوع!
وحال المرشح لا يختلف كثيرا عن حال ناخبه لكن تطلعاته تفصح عن دناءة وفساد مستطير، يدفع مليون دولار كي يحتل الرقم واحد في القائمة الانتخابية، يمثل ذلك استثمارا مربحا، أربع سنوات كافية لمضاعفة المبلغ المدفوع مرات، وله بعد السنوات الأربع أن يجدد استثماره أو يرضى من الغنيمة بالإياب، أو يطوف بدول يهمها تطمين مصالحها في العراق عارضا خدماته ليحصل منها على ما قدر له من رزق حرام!
هنا تموت السياسة ويضطرب الفضاء العام وتشيع الفوضى، وواحد من وجوه موتها أيضا بلوغ عدد الأحزاب التي سجلت نفسها لخوض المعركة الانتخابية أكثر من ثلاثمئة، وهو رقم قد يجعل العراق الأول في العالم من حيث عدد الأحزاب بما يؤهله للدخول في موسوعة غينيز للأرقام القياسية، لكن معظم هذه الأحزاب تتشابه في ما تطرحه من شعارات شعبوية رخيصة تخاطب الحاجات الآنية للمواطن البسيط، وتستثير الحس الطائفي لديه على نحو لافت، ولا تفصح عن مصادر تمويلها، وكما في الدورات الانتخابية السابقة فمن غير المتوقع أن يمتد عمر هذا النمط من الأحزاب لأبعد من بضعة شهور بعد الانتخابات حيث تطوي أوراقها وتمضي، وهي اليوم تتبادل المواقع والمواقف والتحالفات في ما بينها على نحو انتهازي لا يؤسس لها هوية ولا يضيف اليها مجدا.
أما حال ما يسمونه «المجتمع المدني» فليس أفضل حيث إن المنظمات والجمعيات التي يفترض ان تراقب عملية الانتخابات، وأن تحمي حقوق المواطن تسعى لإسباغ شفافية مفتعلة على العملية مقابل ثمن معلوم، مثلها مثل «الجيوش الإلكترونية» التي تجاوزت أعدادها رقما مخيفا، وكذلك الفضائيات التي تسخر برامجها لتسفيه الفعل السياسي السوي واعتماد البذاءات في النقد المتبادل بين اللاعبين.
وانصافا فان هذا التواطؤ المرئي والمشخص الذي يدفع الى موت السياسة ليس نتاج الأعوام العجاف التي أعقبت الغزو فحسب بل يرجع لأبعد من ذلك حيث لم يقدر للعراق أن يشهد نظاما مؤسسيا منذ صعود «العسكريتاريا» والأحزاب الشمولية الى سلطة القرار، والصراعات بين قوى محسوبة على الفضاء السياسي كان يمكن لو نمت طبيعيا أن تساعد على تجذير الممارسة السياسية.
فتح طريق
وكذلك تغييب أي هامش ديمقراطي يفتح الطريق أمام المواطن لإبداء الرأي والمشاركة في صنع القرار، وقد تكرس ذلك النهج في ظل ضغوط الحروب والحصارات وسياسات القمع والتطرف الأعمى التي أسكتت أصوات الناشطين السياسيين في صفوف المعارضة وغيبت دورهم، كما حجبت الفرصة التي قد تمكن من بروز سياسيين لهم رؤاهم ووجهات نظرهم الخاصة داخل صفوف الموالاة نفسها، وهذا ما دفع بالسياسة باعتبارها فن التعامل مع الشؤون العامة الى حالة انكفاء وصولا الى موت بطيْ بتدبير مسبق من قبل من يقبض على سلطة القرار، ويسقط المواطن في هوة العجز وعدم القدرة على الفعل. ومن هنا تصبح العملية الانتخابية الماثلة مجرد ديكور لنظام سياسي هجين يعمل على توطين موت الساسة وموت السياسة معا.