أعمال فنية كبرى على رف النسيان
التطور الدرامي للنص والإبداع المسرحي
راجي عبدالله
ربما يكون بمقدور هذه الدراسة الموجزة ان تهدف للتمهيد إلى خلق نوع من العلاقة السليمة بين النص والمخرج المسرحي على خشبة المسرح ، لتهيئة المناخ المناسب في تكوين حالة من التفاعل الإبداعي على الخشبة طيلة فترة العرض المسرحي لأي نص مكتوب على الورق ، سواء أكان نصاً حديثاً أو بالغاً في القدم ، من أجل تقديم عرض مسرحي تتوفر فيه كل الشروط الفنية لعرض متطور يمكن أن يبقى في الذاكرة المسرحية لفترة طويلة من الزمن ، ويكون حافزاً لبقية العروض المسرحية الأخرى أن تخطو خطوات أكثر فعالية مدروسة في تكوين نوع من العلاقة الجديدة بين الجمهور المسرحي وبين المسرح ، بعد هذا الإنحسار في حالة التواصل بين الجمهور المسرحي وبين المسرح التي تشهدها الحركة المسرحية في المسارح العربية وكذلك في بلدان مختلفة من العالم الآن ، ولكل له أسبابه التي لا مجال لذكرها الآن ، ومنها تأثير وسائل الإعلام سلبياً على الذاكرة الإجتماعية لأنها تمتلك أدوات التواصل السريع والسهل مع الجمهور مما لم يمتلكه المسرح في أي حال من الأحوال .
هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يمكنني التفريق بين النص المسرحي أياً كان مصدره وكانت نشأته في هذا العالم على إختلاف نشاطاته المسرحية ونوعيتها، مادامت هنالك صيحات جديدة مدوية في أغلب المسارح العالمية والعربية تنادي بتلاشي سلطة النص المسرحي أو حجبه عن الظهور على خشبة المسرح ، أوالتوقف عن التعامل معه على إعتبار أنه أصبح من ذاكرة الماضي وإرثه الذي كان فيما مضى مؤثراً بالحركة المسرحية في العالم قاطبة مهما إختلفت نشاطاته المسرحية وتنوعت.
هذه هي المشكلة التي تواجه المسرح في يومنا هذا وهي مشكلة مستعصية جداً إذا لم يسعَ لحلها القائمون على المسرح في كل مكان على أساس سليم ،
بدلاً من هذه الفوضى الفكرية والفنية التي أخذت تنتشر في العديد من المسارح العربية والعالمية .
اسئلة ملحة
إن هذه الأسئلة الملحة يمكن أن يطرحها المخرج على نفسه في بحثه الدؤوب عند اختياره للنص الذي ينوي إخراجه ، وهي من الأسئلة الملحة أيضاً التي يطرحها فريق العمل المسرحي بكاملة بإعتباره المنفذ لرؤية المخرج وخطتة الإخراجية ، وبمعنى أدق ، ما هو هذا النص الذي يستهوي الجمهور في هذا العصر أو ذاك ؟ وما هي هذه الخصوصية وهذه النظرة التي تحتاج إلى الكثير من الدقة في العمل المسرحي من أجل توصيل أفكار مجموعة من الفنانين الذين يقضون فترة من الوقت في التدريب ، لبلورة أدق الصور والرؤى الفكرية سواء في حركة الجسد أوفي التعامل مع النصوص السمعية على حد سواء .
من جانب آخر هل يتوجب على المؤلف المسرحي أن لايكتب نصه إلا في محدودية الحالة الإجتماعية السائدة ليكون نصه شعارياً فقط ومرحلياً لحالة واحدة ؟ وهل يتوجب أيضاً على المخرج المسرحي تعميم ظاهرة التلقي السهل والبسيط للعروض التي تخلو من المتعة الفكرية والروحية ومن البناء الفكري للإنسان وتغييره من مستوىً معين إلى مستوى إنساني أكثر تطوراً ، ضمن عملية تهذيب قيمه الإنسانية داخل المجتمع الواحد مهما كان تعدده ومهما كانت رغباته و مستوياته وفوارقه الفكرية والإجتماعية .
كلا أبداً لأن المؤلف المسرحي في الماضي كان يكتب للحياة بكل جوانبها الإنسانية وقيمها العظيمة ، و أن المؤلف المسرحي منذ المراحل التاريخية لنشأة المسرح في القدم ، لم يكن يعلم أيضاً ماذا سيكون حال المسرح بعد أجيال عدة من الناحية الروحية والتقنية إذا كتب نصه قبل آلاف السنين ، ولا يعرف أيضاً ماذا سيكون حال المسرح في العالم مستقبلاً حتى يكتب نصه على ضوء عملية التطور والتسارع التكنلوجي المتطور الذي أخذنا نشهد بواكيرة في الحاضر . هذا ماكان يحدث في عالم المسرح قديماً وحديثاً وسيستمر هذا الوضع إلى ما لا نهاية في حركتنا المسرحية .
كما أن أي مؤلف عندما ينتهي من كتابة نصه وينتهي منه لا يدري ماذا سيتوفر في العصر الحديث من إمكانيات فنية في الماضي القريب والبعيد ، وأي مخرج أو فريق عمل سيمثل إحدى التراجيديات والكوميديات التي كتبها ويكتبها ، ولا يدري أيضاً ماذا سيكون مصير هذا النص عبر مراحل تطور الحياة بشتى جوانبها المسرحية أو الفنية أو تنوعهما التقني والفني على مر العصور . كما أنه لا يعرف مدى توفر الوسائل التقنية الحديثة في حقل المؤثرات الضوئية والسمعية ، ولا يعلم كذلك أي من المخرجين سيتعامل مع نصه وما هي الخطة الإخراجية التي يضعها لتنفيذ عمله .
فلو كانت هذه الأمور متوفرة في عصر النهضة لأكثر المؤلفون السابقون من استعمالها، كي تتيح لهم فرصة التعامل مع مشاهد الخوارق الطبيعية التي تمتلئ بها مسرحياتهم ومنها تلك المسرحيات التي تعتمد على الخوارق والمعجزات والفضاءات الواسعة المليئة بالصور المختلفة ، ومنها تلك الأمثلة العديدة المنتقاة من المسرح تاريخياً منذ مرحلة نشوء المسرح اليوناني القديم وتطوره وصولاً إلى سوفوكليس الذي لم يكتب مسرحيته المشهورة - أوديب ملكاً - كي تمثل في بناء صغير يرومه جمهور محدود ، بل كان يكتب لمسرح مكشوف يسمى - مسرح الهواء الطلق - الذي يتطلب التركيز أولاً وأخيراً على الحركات الجسدية العامة وعلى القدرة الصوتية الهائلة .
هذا يعني أن التكنيك المسرحي ليس هو الأساس في عالم المسرح حتى إذا كان متطوراً، بل أنه وسيلة من وسائل التطور البصري التي لابد من إستخدامه إستخداماً فنياً سليماً دون الإيغال في الإستخدام على حساب الخط الدرامي للعمل الفني أو خارج الخط العرض للعرض المسرحي ونوعه .
وهذا يعني أيضاً يعني أن أي كاتب مسرحي يكتب وفقاً للإمكانات المسرحية المتاحة في زمانه ، ويجب عليه أن يمتع جماهير الزمان الذي كتب فيه نصه،بما يتوفر له من وسائل تقنية بسيطة من أجل الحفاظ على تواصلهم الدائم في المجيء ومتابعة عمله المسرحي .
مع كل هذا وذاك لا أحد ينكر إن حرية الاختيار تعود للمخرج نفسه ، فهو الذي يكتشف قيمة النص الفنية والفكرية ومقدار تواصله الإنساني من جيل إلى آخر ، وماهية التأثيرات الروحية التي يضيفها إلى المشاهدين ، وكيفية معالجتها إخراجياً وفقاً لما هو متاح من إمكانات بشرية وتقنية ، وعليه فإن من حق المخرج التعامل مع أي نص من النصوص مهما كانت قديمة أو حديثة شريطة أن يرتقي بها فنياً وإبداعياً وأن يبعثها إلى الحياة من جديد ، بحيث يكون استخدام الوسائل التقنية الحديثة منسجماُ مع متطلبات المسرحية وأن لا تطغي عليها كما ذكرت .
وكما أن الكاتب المسرحي لا غنى له عن جمهوره في أي زمان ومكان فإن المخرج والممثلين لا غنى لهم عن الجمهور، أيضاً شريطة أن يكون هنالك تواصل منسجم بين الإثنين، يفضي في النهاية إلى عرض مسرحي شيق ومؤثر وتتوفر فيه شروط الإبداع السليم على خشبة المسرح في كل الأحوال .
كما يتوجب أيضاً هنا الانتباه إلى المقاييس والمستويات الأدبية والفنية لهذا العمل أو ذاك في عصر المسرحية التي نحن بصددها ، وأن نتذكر أن كل فن يمر بأدواره المتطورة شيئاً فشيئاً ، إن هذه المسألة لا تنطبق فقط على النص المسرحي باعتباره شكلاً من أشكال الدراما ، بل تنطبق كذلك على جميع الفنون والنتاجات الأدبية و الملاحم الإنسانية الخالدة التي كتبت ( ق . م ) بمراحل عديدة .
مع ذلك إن وليم آرثر في كتابه : المسرحية القديمة والحديثة ( The Old Drama & the New ) الذي كان من أهم المنظرين المسرحيين في أوربا وأمريكا ، يبين العيوب الكبيرة التي كانت موجودة عند كتاب العصر القديم مقارنة بالكتاب المحدثين في وقتنا الراهن ، فهو يبين تفوق المحدثين على من سبقوهم من الكتاب العظام ، لكنه لم يتوصل في كتابه القيم إلى أن الكتاب المحدثين قد حققوا هذا نتيجة لما سبقهم من تطور في فن المسرح . هذه إذن الحلقة المفقودة في أي بحث من البحوث التي يجب أن تتصل مع بقية الحلقات لتكمل بعضها على أقل تقدير ، وكذلك هذا هو الحال مع تطور المسرح ضمن الحركة المسرحية الآنية والتي سبقتها وألتي تأتي بعدها .
صحيح أن الذي يتوفر للمخرجين وللممثلين في عصرنا الراهن من نظريات وأفكار نقدية رصينة لم تكن متوفرة لمن سبقوهم ، وأعني مقاييس الدقة في طرح الحقائق لدى كتابة النقد عن أية مسرحية ، فهي غالباً ما تكون اليوم أفضل من أي وقت مضى . كما أن تبادل المعلومات في جميع ميادين الثقافة ومنها المسرح ، قد مكن المخرجين جميعاً من الإطلاع على تجارب بعضهم على الرغم من تباعد المسافات والأزمنة ، غير أن هذا لا يعني الأخذ بكل الطروحات الغريبة التي لا تعتمد على التحليل العلمي من دراسات أو مقالات نقدية لا تستند على إسس علمية صحيحة .
مدرسة الكمال
لهذا يمكنني الذهاب إلى أن هذه الآراء الواردة هنا يمكن لأي مخرج مسرحي التأمل فيها ، فغالباً ما نجد بعض من الذين ينتمون إلى مدرسة ( الكمال ) إن صح التعبير، الذي لا وجود له قطعاً في عالم الفن عامة والمسرح خاصة يرفضون ذلك ، لأنهم قد لا يدركون أن المسرح ينتمي إلى التجريب والتحقيق والتغيير الدائم منذ مراحله الأولى حتى العرض وهو كذلك أيضاً منذ نشاته الأولى حتى الآن . إن هذه الميزة تعتبر من أهم الميزات التي يتميز بها المخرج الناجح عن غيره إذا إخذها بعين الإعتبار .في الختام يمكن الإشارة إلى أن في مسرحنا العربي نجد أن هنالك الكثير من المؤلفين المسرحيين الذين كتبوا نصوصاً على درجة كبيرة من الأهمية ، ورحلوا عن الدنيا تاركين لنا إرثاً غنياً من المسرحيات المكتوبة التي تتطلب من المخرجين المسرحين والعاملين فيه التعامل معها بطريقة حديثة ، ولكن ضمن معالجات إخراجية جديدة تخضع إلى مقاييس حديثة في الإستخدامات البصرية والفنية بما هو متوفر الآن من وسائل تقنية كما ذكرت آنفاً ، إذ أن العزوف عن التواصل مع القديم مهما كان نوعه لايمكن إعتباره أمراً صحيحاً حينما نعيد النظر في النصوص الكثيرة التي كتبها كتاب المسرح الراحلين ، وهذه الحالة تنطبق أيضاً على المسرح العربي في مصر وسوريا والمغرب وتونس وبقية البلدان العربية التي توجد فيها ظاهرة مسرحية ناهضة.