الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التعليم وجدلية الصراع بين الوعي والتخلّف

بواسطة azzaman

التعليم وجدلية الصراع بين الوعي والتخلّف

عصام البرّام

 

يعد التعليم المفتاح الأساسي لتقدم الأمم والشعوب، وركيزة أساسية لبناء الدولة والمجتمع وفي تحقيق التنمية المستدامة. فهو ليس مجرد وسيلة لتلقين المعرفة، بل هو أداة فاعلة في تشكيل الوعي الجمعي، وتعزيز القيم الإنسانية وتحرير المجتمعات من قيود التخلف والجهل. ومع ذلك، فإن جدلية الصراع بين التعليم كأداة للوعي وبين التخلف كنتاج للجهل والفقر تمثل تحدياً رئيسياً يواجه العديد من الدول النامية، وتتعمق هذه الجدلية عندما يصبح التعليم ميداناً للتجاذب بين الطموح لتحديث الدولة من جهة، وقوى التخلف والمصالح الفردية من جهة أخرى.

التعليم محرك للوعي

من هنا ندرك، إن التعليم هو الركيزة التي يستند اليها أي مجتمع يرغب في بناء وعي نقدي وقدرة على التفكير المستقل، فمن خلاله يكتسب الأفراد مهارات التحليل والفهم، ويتمكنون من التفاعل مع محيطهم بعقلية منفتحة، مما يجعلهم أدوات فعّالة في التغيير المجتمعي. فالتعليم يعزز قيم العدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، ويوفر بيئة تسمح للأفراد بالمشاركة الفاعلة في بناء الدولة ومؤسساتها. فنجد في أغلب دول العالم المتقدم، يظهر بوضوح كيف أن التعليم يلعب دوراً أساسياً في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما يهيأ الأفراد لدخول سوق العمل ويسهم في الإبتكار والإبداع. فعلى سبيل المثال، إن الدول التي تستثمر في التعليم بشكل مكثف مثل فنلندا وسنغافورة، أستطاعتا الوقوف في ركاب الدول التي يشار لها بالبنان، حيث نجحتا في خلق مجتمعات متقدمة ومؤسسات مستقرة، جراء معرفتها في كيفية أستثمارها للتعليم وفهمها كأساس لبناء أية أمة وتطورها وثقافتها، وبناء جيل واعي يقف أمام التحديات بكل أشكالها.

التخلف العائق أمام بناء الدولة

في المقابل، يمثل التخلف قوة مقاومة للتعليم والوعي، فالتخلف ليس مجرد نتيجة لنقص الموارد، بل هو منظومة من القيم والعادات التي تعيق التقدم، ففي البيئات المتخلفة؛ يتم تقويض دور التعليم عبر التركيز على التلقين بدلاً من التفكير النقدي، أو عبر تهميش الفئات الضعيفة مثل الفتيات أو سكان المناطق الريفية دون الأهتمام  بقيمة الإنسان كقوة فاعلة ومؤثرة إن كان في الحضر أو الريف. فغالباً ما يؤدي الجهل الى تعزيز الإنقسامات الاجتماعية، سواء كانت على أساس العرق، أو الدين أو الطبقة الاجتماعية أو المناطقية. ففي مثل هذه البيئات، يصبح التعليم أداة لفرض الهيمنة بدلاً من أن يكون وسيلة لتحرير العقول، فيتم إستغلال التعليم لتكريس أنماط تفكير تقليدية تعزز من هيمنة النُخب الاجتماعية والسياسية، وهو نوع من السياسات الإستعمارية التي تتخذها بعض الدول لأسباب شتى وكثيرة، أو الحكومات المحلية لإغراض كثيرة أيضاً.(لا مجال ذكرها في هذا المقام والمقال).

جدلية الصراع بين الوعي والتخلف

يمثل الوعي؛ القدرة على فهم الواقع وتحليله بعمق، والتفاعل معه بهدف تغييره نحو الأفضل، إنه يشمل الإدراك الثقافي والسياسي والإجتماعي والاقتصادي، ويعزز من قدرة الأفراد والمجتمعات على إتخاذ قرارات واعية ومستقلة. فالدول التي نجحت في بناء مؤسساتها وتحقيق التنمية، كانت تلك التي أستثمرت في تعزيز وعي شعوبها، سواء من خلال التعليم أو الإعلام الواعي أو الحوكمة المدروسة بدقة عالة.

فالدول التي تجاوزت تحديات التخلف، لعبت النُخب المثقفة دوراً محورياً في صياغة رؤية وطنية جامعة، تلهم المواطنين وتدفعهم للمشاركة الفاعلة في بناء الدولة، فالوعي هنا، يتجاوز مجرد المعرفة؛ فهو حالة ديناميكية تنطوي على إدراك شامل لما يحيط بالإنسان، والقدرة على إستشراف المستقبل. كما يتخذ الصراع بين الوعي والتخلف أبعاداً متعددة، بعضها إقتصادي وبعضها إجتماعي أو ثقافي، ففي الكثير من الأحيان، نجد إن التعليم نفسه؛ يصبح أداة للصراع، ففي الدول التي تعاني من التخلف، يمكن أن تتحول المؤسسات التعليمية فيها الى منصات لنشر الأيديولوجيات أو تعزيز القيم الرجعية، بدلاً من أن تكون حاضنات للتنوير والعلم، ونشر المعرفة وزيادة الوعي الحضاري المتجدد مع تطور الحياة بكل فروعها العلمية. فعلى سبيل المثال، هناك دول تستخدم التعليم كوسيلة لبث الدعاية السياسة أو الترويج لنسخة مشوهة من التأريخ، مما يعمق الإنقسامات الاجتماعية وضعف الهوية الوطنية والإنتماء الوطني، كما يحدّ من قدرة الأفراد على التفكير النقدي. وفي المقابل من ذلك، عندما يكون هناك وعي بأهمية التعليم ودوره التنويري والإنفتاح على الثقافات العالمية والحوار والتواصل العلمي، فإن الدولة تسعى لتطوير المناهج التعليمية بما يتناسب مع التطورات المعاصرة، وضمان إستقلالية المؤسسات الإكاديمية، بما تقوم به من طرح المشاريع والبحوث والدراسات العلمية.

بناء الدولة ودور التعليم

إن بناء الدولة لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن نظام تعليمي قوي وفعال. فالدول التي تسعى الى تعزيز إستقرارها السياسي وتنميتها الاقتصادية، تدرك إن التعليم هو الوسيلة لتحقيق ذلك. فهو يخلق جيلاً واعياً بمسؤولياته، قادراً على الإبتكار والتحدي والعمل لتحقيق المصلحة العامة، وفي السياق العربي، نجد إن العديد من الدول تواجه تحديات كبيرة في ربط التعليم بعملية بناء الدولة. فالمناهج التعليمية في كثير من الأحيان تعاني من غياب التركيز على التفكير النقدي المستقل والإبتكار النوعي، إضافة الى وجود فجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، إن هذه التحديات تجعل من الصعب على الدول تحقيق نهضة شاملة ومستدامة قادرة على تحقيق كل ما تصبو اليه.

الاصلاح التعليمي كخطوة ضرورية

لتجاوز جدلية الصراع بين الوعي والتخلف، ينبغي تبني إصلاحات جذرية في النظام التعليمي، تبدأ هذه الاصلاحات بتطوير المناهج لتكون اكثر شمولية ومرونة، وتعزز مهارات التفكير النقدي والتحليل لدى الطلاب. كما ينبغي ان يكون التعليم متاحاً للجميع دون تمييز، مع التركيز على الفئات المهمشة والمحرومة. إن أحد الجوانب المهمة للإصلاح التعليمي هو الإستثمار في تدريب المعلمين وتطوير مهاراتهم، لأنهم يمثلون العمود الفقري لأي تعليمي ناجح. بالإضافة الى ذلك، ينبغي أن تكون هناك شراكة بين المؤسسات التعليمية والقطاعات الاخرى في الدولة. مثل القطاع الصناعي والتكنولوجي، لضمان مواءمة التعليم مع متطلبات سوق العمل.

التعليم كجسر للتنمية

يعد التعليم هو الجسر الذي يمكن للدول من خلاله العبور من التخلف الى التقدم، ذلك إنه المحرك الأساسي للأبتكار والتنمية الاقتصادية، الدول التي تدرك هذه الحقيقة تستثمر في التعليم ليس فقط كحق إنساني، ولكن كأداة إستراتيجية لبناء المستقبل. التعليم يعزز من رأس المالالبشري، ويخلق بيئة تدعم ريادة الأعمال والأبتكار، ما يسهم في تحقيق النمو الاقتصادي. في المقابل، فأن إهمال التعليم أو توجيهه في مسارات خاطئة يمكن أن يؤدي الى عواقب وخيمة، مثل زيادة معدلات الفقر والبطالة، وتفشي الفساد، وإنعدام الإستقرار السياسي والاجتماعي.

إن جدلية الصراع بين التعليم كوسيلة للوعي وبين التخلف كنتاج للجهل تمثل تحدياً جوهرياً في عملية بناء الدولة، فالتعليم ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو أداة لتحرير العقول وتعزيز القيم الإنسانية التي تؤسس لدولة قوية ومستدامة، لذلك ينبغي على الدولة أن تجعل التعليم أولوية وطنية وإستراتيجية، ليس فقط من أجل معالجة التخلف، بل من أجل تمكين الأجيال القادمة في بناء مستقبل أفضل، إنه إستثمار في الإنسان، والإنسان هو جوهر أي نهضة أو تنمية محلياً أو عالمياً. لذا يبقى الصراع بين الوعي والتخلف، جزءاً من عملية بناء الدولة، لكنه ليس حتمياً ولا مستداماً، ولكن بأرادة الشعوب وآستثمارها في الوعي الجماعي، لتجاوز التخلف وتحقيق تطلعات التنمية، فالوعي ليس مجرد أداة للتغير، بل هو حجر الأساس لبناء دول مستقرة ومزدهرة تستطيع مواجهة تحديات العصر بثقة وآقتدار.

 


مشاهدات 57
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/01/11 - 1:24 AM
آخر تحديث 2025/01/11 - 9:59 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 508 الشهر 5289 الكلي 10095254
الوقت الآن
السبت 2025/1/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير