مع المسيحية (2)
بيوس قاشا
فلنشارك في الفرح الذي تبعثه الأعياد في نفوس المحتفلين ولندرك سوية المعاني والأبعاد التي يتضمنها العيد وخاصة بتجسد الكلمة التي أُرسلت إلى مريم كما يقول القرآن الكريم. لذا مطلوب من جميع المحتفلين أن يكون لهذه الأعياد رسالة سماوية، رسالة محبة وفرح، رسالة غفران ومصالحة والتي تتم بين الأفراد والأُسر المتخاصمة لتعزيز أواصر الحياة والأواصر الاجتماعية القائمة بين أبناء الدين الواحد والبلد الواحد.
نعم، ولد المسيح يسوع «الكلمة»، كما يقول مار بولس «لمّا تمّ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من عذراء» (غلا4:4)، ولوقا الإنجيلي يقول:»هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً» فهي حبلى من الروح القدس (لو35:1)، والقرآن الكريم يقول:»وأرسلنا كلمتنا إلى مريم وأيّدناه بروح قدسنا» (سورة مريم، آية 17). في بيت لحم في فلسطين القديمة، ومريم أمّه كانت عذراء حبلت بابنها - كما أدرجتُ سابقاً - بقوة الروح القدس. فشؤون الرب هي غير شؤون البشر، فحينما ظلّلها الروح أراد الله أن تكون ليسوع أمّ بشرية حقيقية لكن أن يكون الله وحده أباه لأنه أراد أن يُطْلِقَ بداية جديدة لا يكون سببها قوى أرضية بل الله وحده رغم أن يوسف كان مربّيه. وترعرع يسوع في كنف عائلة عادية فهو ابن النجار البسيط من الناصرة، وقضى القسم الأكبر من حياته في الخفاء حيث كان في صغره وشبابه يتسامى في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس هكذا يقول لوقا (لو53:2) وقد كان في أعين الرب هو المسيح المنتظر الذي كان الشعب ينتظره، فقد كان أيضاً في قرية الناصرة الحقيرة والصغيرة وقد بدأ خدمته لما بلغ سنّ الثلاثين بالتعليم وشرع يكرز مواطنيه علناً وبسلطة قائلاً:»لقد حان الوقت واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالبشارة» (مر15:1).
بشارة الحب
اختار يسوع منذ بدء حياته العلنية فرقة صغيرة من تلاميذه ليعملوا معه، واختارهم ليتبعوه، وكوّن منهم فرقة الاثني عشر تلميذاً ليكونوا معه وينشروا رسالته، وهؤلاء سمّاهم رسلاً كي ينقلوا من بعده رسالة البشارة بأمانة إلى الشعوب كلها، وأرسلهم إلى قرى فلسطين ليكرزوا ويعلنوا البشارة، بشارة الحب، وأقام للرسل كبيراً ورئيساً ووعده بمساعدة خاصة وطلب منه أن يقود جميع الذين سيصبحون مؤمنين إذ قال له:»أنت ثبّت إخوتك متى رجعتَ» (لو32:22).
جمع تعاليمه ونقلها لنا تلاميذه في كتاب سمّته الكنيسة «الأناجيل المقدسة» والذي يثبت وجود يسوع وهي تشكّل للمسيحيين جزءاً من العهد الجديد وما كتب وما جمعه التلاميذ من معلومات نقلوها عنه شهود عيان وهي معلومات موثوق بها وتعرّف الإنسان بوجوده. كما جمع من حوله بعض الأصدقاء من بينهم صياد السمك والعشّار وعلى مدى ثلاث سنوات جال يعلّم ويشفي ويصنع خيراً لكل محتاج. فقد أعاد البصر إلى العميان، وشفى العرج والمقعدين والمرضى، وأقام الموتى، فصار حقاً حياة الشعوب كلها وأظهر دوماً روح التضامن الحقيقي مع جميع الناس، فقد كان طيباً مع الجميع وما أظهره تجاه المتألمين والمحتقرين. ونحو أضعف الناس حيث لمس الأبرص فشفاه، وانتهر الحمّى فخرجت، وأمسك المفلوج فأقامه، وقابل الأعمى فأمسى بصيراً، وأقام أمواتاً على مرأى شهود عيان، وأمر الأرواح الشريرة فخرجت من نفوس المعذبين ليعيشوا فيما بعد في راحة وسلام. ولم يجد أحد قط فيه عيباً، فقد كان مثالاً للمحبة الخالصة الطاهرة بأجلى أوصافها ومعانيها وفي كل الأوقات والظروف، وكان غضبه مبرَّراً وتحت سيطرته فقد غضب لأن الناس أساءوا استخدام بيت الله وأضحى المكان للتجارة بدل الصلاة.
كما اختبر يسوع الجوع والعطش والتعب، ومن شدّة التعب نام مرة في سفينة تتقاذفها رياح عاتية، وعرف السعادة والصداقة كما عرف البكاء وقت الحزن الشديد، وعرف الشعور عند تخلّي الأصدقاء. وعندما حاكمه بيلاطس البنطي أقرّ بعجزه عن إيجاد علّة فيه. وعاش يسوع حياة الشفقة الكلية، وأظهر حضور الله الخلاصي كما أظهر محبة الله فقد ترك راعي القطيع الذي راح يبحث عن الخروف الضال حتى وجده. ونرى ابناً أو مَن يأخذ إرثه على حياة أبيه ويبذّره ويعيش مسرفاً ويعود نادماً على ما فعل، لكن الأب كان يترقّب عودة ابنه فرحّب به بذراعين مفتوحتين، وبهذا المقدار - يقول يسوع – هي عظمة محبة الله وغفرانه. فكان يحب عِشرة الناس ويحتمل من الفريسيين والمتعالين. والتلاميذ الذين اختارهم أعطاهم سلطاناً أن يصنعوا أعاجيب باسم الله وباسم يسوع المسيح وبدأ يعلّمهم حالما تلقّوا الروح القدس بعد خمسين يوماً من قيامته لكي ينيرهم ويقودهم إلى الحقيقة، وعهد إليهم عمل الخلاص، وأولاهم السلطان لكي يقدموا باسمه بأفعال أسرار وبذلك أخذ كل مسيحي يقاسم حياة المسيح من خلال أسرار الكنيسة.
حاكم روماني
فقد عمل بأقواله وأعماله، وقاوم كبرياء رؤساء الدين اليهود فقرروا أن يقضوا عليه. وإن كان يسوع قد علّم بذلك لكنه لم يفعل شيئاً لينجو من الخطر فوقِّف وأُسلم إلى الحاكم الروماني بيلاطس البنطي، وحُكم عليه بالعذاب المهين عذاب الموت على الصليب، فصُمّر وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أسلم الروح إلى الله وغفر لصالبيه. والقائد الروماني الذي كُلّف بإعدامه والذين كانوا معه إذ رأوا موت يسوع صرخوا «حقاً كان هذا ابن الله» (متى 54:27) وبعض من تلاميذه حصّلوا من الحاكم السماح بأن يدفنوا جسده، ووُضع على القبر حراسة مشدّدة ولكن رغم ذلك وُجد القبر فارغاً، فبعد ثلاثة أيام قام يسوع من بين الأموات كما وعد بذلك، وظهر لتلاميذه وأكّدوا هؤلاء أنهم رأوه بأعينهم ولمسوه بأيديهم، وبحضورهم رُفع إلى السماء وغاب وأكمل رسالته ووعد بأنه سيعود في نهاية الأزمنة ويجازي كل إنسان حسب الحياة التي يكون قد عاشها، كما وعدهم بأن يكون معهم طول الأيام إلى نهاية العالم (متى18:28-20). فقد كان المسيح يعيش في إطار التصورات والفرائض الأخلاقية السائدة في زمانه، ولكنه ابتعد من تفسير الشريعة تفسيراً شكلياً وحرفياً... (وإلى الحلقة الثالثة والأخيرة)
مسؤول كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك