حين يترجّل المسرح عن صهوته
حامد الضبياني
كأن العراق حين ينعي فنانًا، ينعي جزءًا من صوته الداخلي، يشيّع قطعة من ذاكرته، ويودّع مرآة كانت تعكس وجعه وجماله في آن. رحل إياد الطائي، الممثل الذي لم يكن مجرد وجه على شاشة أو جسد فوق خشبة، بل كان روحًا تمشي متعبة بين شخصياته، تنقل ملامح الناس، وتكسّر صمت الأزمنة بصوتها الجهوري وإيماءاتها الصادقة.إياد الطائي، المولود في بغداد في العشرين من تشرين الثاني عام 1965، لم يكن فنانًا عابرًا في سجل المسرح والتلفزيون العراقي، بل كان واحدًا من أولئك الذين علّمونا أن الفن ليس مهنة، بل قَدَرٌ يتجذّر في الروح. بدأ أولى خطواته من المسرح المدرسي، ذلك المعبر الطفولي الذي يأخذ الحلم من الطفولة إلى الرجولة، ومن اللعب إلى الجدية، حتى بلغ العام 1990، حيث صعد إلى الضوء عبر المهرجان الأول للشباب بدعوة من المخرج عماد محمد، وهناك توّج بجائزة أفضل ممثل، وكأن الجائزة لم تكن ورقة تكريم بقدر ما كانت عهدًا بينه وبين الحياة: أن يسير في درب طويل لا يتوقف عند محطة واحدة.سنواته التي أعقبت ذلك لم تكن مجرد محطات مهنية، بل كانت سيرًا على جمر المسرح، وارتشافًا من مرارة الحياة اليومية للعراقيين، ليصوغ منها حكايات على الشاشات، من «وكر الذيب» حيث كان «الشيخ سلام» رجلًا لا ينهزم، إلى أدواره التاريخية في «الإمام الشافعي» و»الحسين ثائراً وشهيداً»، إلى أعماله الاجتماعية التي عكست ملامح المجتمع ووجعه. لم يكن ممثلًا فقط، بل كان مؤرخًا عاطفيًا، يسجّل بدموع شخصياته وابتساماتها ذاكرة شعب بكامله.لكن القدر، الذي يعشق أن يختبر أكثر القلوب إشراقًا، قرر أن يبتليه بمرض لم يمهله طويلًا. منذ مطلع أيار 2025 بدأت رحلة العذاب الصامت، حين خانته الكليتان، وتغلغل الورم في الكبد، ليترك بغداد ويتجه إلى الهند طلبًا للعلاج. هناك لم يكن الممثل يواجه مرضًا عضالًا فحسب، بل كان يواجه فكرة الرحيل نفسها. أيُعقل أن يترجّل من على الخشبة فجأة؟ أن يسدل الستارة على مشهد لم يكتمل بعد؟..الدولة تكفّلت بعلاجه، وزملاؤه أحاطوه بالدعوات والوفاء، لكنه كان يسير في طريق لا عودة منه. جسده ينطفئ شيئًا فشيئًا، فيما روحه كانت تحترق بالشوق للعودة إلى المسرح، إلى جمهوره، إلى الحياة التي لم تشبع منه بعد. وفي صباح الجمعة، أغمض عينيه على آخر فصل، تاركًا للعراق جرحًا مفتوحًا، وذاكرة ممتلئة حتى التخمة بما قدّمه من فنّ.إن الحديث عن إياد الطائي ليس حديثًا عن إنسان رحل فحسب، بل عن مدرسة كاملة في الصدق الفني. لقد عاش من أجل أن يكون الفن مرآةً للحياة، ومات وهو يحمل في قلبه همّ الوطن والإنسان. وما أكثر ما يشبه العراقُ أبناءه الذين يشبهونه في المحنة والصبر، في الشموخ والانكسار.رحم الله إياد الطائي، الممثل الذي لم يخن نفسه يومًا، ولم يتصالح مع الرداءة، بل ظل يسير على خيط رفيع بين الألم والإبداع، حتى صار موته نصًا آخر من نصوصه: نصًا كُتب بالدمع والوجع، وسيبقى في ذاكرة العراقيين ما بقيت بغداد تتنفس المسرح وتضيء الشاشات.إنه رحيل يوجع الروح، لكنه أيضًا ولادة أخرى، لأن الفنان الحقيقي لا يموت، بل يتحوّل إلى طيفٍ يسكن في ذاكرة وطنه، ويظل حاضرًا في كل كلمة، في كل مشهد، في كل لحظة نحتاج فيها إلى صوته لنذكّر أنفسنا أن الجمال قد ينهزم جسديًا، لكنه لا ينهزم روحيًا أبدًا.