رواية قصيرة جدا
نادي الفوضى
ابتهال خلف الخياط
وصلتني دعوة مريبة بأني مؤهل لكسب عضوية نادي عنوانه الفوضى !
ضحكت كثيرًا حتى صرت أسعل بشدة ، تنفست بهدوء وشعرت بألم في صدري لأول مرة . إني رجل تسعيني لكني بصحة جيدة ولا أشكو من الأمراض المزمنة، فقط تم تبديل مفصليّ الركبة حيث أخذني ابني السبعيني وولده الخمسيني إلى دولة مجاورة وقاما بواجب الأبوة .
أظن لأنني نادر الوجود قد تواصل معي هذا النادي . رميت الدعوة ونسيتها لأيام قبل أن تصل إلى مسامعي طَرقات على الباب ليأتي حفيدي ليخبرني أنَّ على الباب زائر غريب يطلبني .
أخبرته أن لايُدخله الدار بل سأخرج اليه .
خرجت لأنظر للطارق فكان شابًا يافعًا شدَّ شعره الطويل إلى الخلف . ابتسمت له متساءلا عن مايريد مني فأنا لم ألتقِ يوما بمثله .
ضحك مجيبًا : صديقي أنا من نادي الفوضى وانتظرناك لتأتي معنا .
قلت ضاحكًا أيضًا : وماتفعلون بي وأنا المستقر على حالي منذ مايقارب القرن من الزمن ؟
أجاب الشاب : نحتاج تجربتك للسيطرة على الفوضى .. سنتحاور وستكون معنا في ما نفكر فيه ، نحتاج تغيير العنوان من فوضى إلى نظام .
لزمت الصمت قليلا ثم قلت له : سأفكر وربما أزوركم لكن لا تعتمد عليَّ كثيرا قد لا أحضر لأني لا أحب أن أشغل بالي في نقاش مع أحد كما أنني نويت أن أكمل القرن وربما مابعده .
ضحك الشاب قائلا : أرجوك تعال و تعرّف علينا ، لكن هل كل عائلتك هكذا ، أعني يعيشون في نظام العيش لقرون ؟
لم أرد عليه بل ابتسمت وأغلقت الباب وعدت حيث كنت ، لم يسألني أحد ممن حولي من أبناء وأحفاد وأحفاد الاحفاد عن الطارق وما أراد .. عادي جدا أنهم كما أنا سيعيشون لقرن وأكثر وهذا نظام جميل ومتقن للحياة براحة .
مرَّ يومان ثم جاءت الطَرقات من جديد وخرجت لأجد الشاب نفسه ليطلب مني الحضور وقد جاء بسيارة معه وتوسل كثيرا لأوافق ، احتجت فجأة رأي أحد من عائلتي ، دخلت وكانوا جالسين بصمتهم المعتاد وهم يتابعون فلمًا ما ، أظنه هنديا من شكل الراقصين .
أخبرتهم برأيهم إن كنت أذهب مع الشاب أم لا ، هزوا أكتافهم فقط وعادوا لمشاهدتهم الفلم.
سيطر عليّ شيء من القلق والتوتر ، ظننت أني لن أتخلص من هذا الشاب وسيبقى يأتي هكذا ، سأذهب معه لأعرف فقط مَن أشار عليهم بي .
ارتديت ملابسي ومسكت عصاي الخشبية الأنيقة وتعطرت وخرجت لأجد الشاب يفتح لي باب السيارة الأمامية لأجلس براحة أكثر .
وصلنا حيث مرآب قديم تم تحويله إلى مقهى ببعض المقاعد الخشبية الأنيقة بعد أن تم طلاءه بألوان زاهية وبعض اللوحات الزيتية . تم كتابة اسم النادي بخط عريض " نادي الفوضى" .
جاء لاستقبالي كل الموجودين ، ينظرون إلي باستغراب حتى قال أحدهم أظنك في الستين وليس التسعين ، ضحكت وضحكوا جميعا فاسحين المجال لأدخل .
جلست وأنا اشكرهم للدعوة قائلا : لا أظن أنني انتمي لهذا المكان بأي شكل من الأشكال .
أجابني أحدهم وقد بدا أنه القائد بينهم فنظرته حادة مع بعض الخبث حين قال : بالعكس انت نموذج نحتاجه في بحث ندرسه لنطبقه شيئا فشيئا على كل مكان يتجمع فيه الناس، نريد إحداث تغييرًا إيجابيًا فإن مانعيشه من فوضى ستنهي وجودنا جميعًا ، إلا مَن هم مثلك ، لاتنزعج .. كيف تمكنت من أن تكون هكذا وتجعل نمط عائلتك على شاكلتك رغم كل الأجيال التي مرت بك؟
نظرتُ إليه بامتعاض وسألته : ليس من شأنكم ، وأريد أن أعرف مَن الذي أشار عليكم بي ؟
جاء صوت من خلفي : أنا ياجدي.
التفتُ لأجد أحد أحفادي العشرينين يجلس خلفي وقد ابتسم لي .
اكمل قائدهم قائلا : انت الأستاذ في الحياة وقد رأيت الكثير وعشت الكثير من الأحداث من حروب وتغييرات في كل شيء . ببساطة هذا النادي نحاول من خلاله خوض تجارب لنجد أيها سيُطوّر حياتنا ومن خلاله نعيد ترتيب مجتمعنا ووطننا .
ضحكتُ باستهزاء قائلا: ولماذا لاتتركون الأيام تسير كما هي حيث لاشأن لكم بمن يأتي ويذهب ويموت أي موتة ، ستكونون بخير وعمر طويل وبصحة جيدة .
تكلم أحدهم دون أن أرى وجهه : هذا الفكر هو من تركك حيًا سليمًا معافى سعيدًا بطول عمرك .ماذا كنت تعمل ؟
كرهت ُ أن أجيبه فقد تهكم واستهزأ بي وشعرت بالضيق .
قال قائدهم : ألا تجيبه ؟
قلت : كنت معلم تاريخ .
صاح آخر : وهل قادك تعليم التاريخ إلى هذا الجمود فلا تشعر بأنك انسان يحتاج إلى معرفة سبب وجوده واهميته بأن يترك أثرًا ؟ ألم تتعرف من خلاله على قادة وثوار وشخصيات كبيرة أحدثت نقلة في شعوبها ؟
إنه لشيء غريب !
قال قائدهم ،لنترك كل الاختلاف بيننا وبينك . أريد رأيك. نحن نثير الفوضى في جلساتنا هنا حين نطرح أفكارنا و نصطدم بيننا إلى حد العراك لكن نعود في اليوم الثاني لنجلس معا ونعيد الكرّة دون جدوى ، أيامنا تنتهي بسرعة ولم نستطع أن نصل إلى طريق نتقبل به الآخر .كيف نغير مانحن فيه دون أن نهدم وجودنا فنكون مثلك فهذا شيء يتفق عليه جميعنا لأنك لستَ بقدوة .
شعرت بضيق شديد وأنا ضعيف أمام هؤلاء المجانين فمن يكونوا أمامي. أنا الناجي من الموت عبر عشرات السنين لماذا أموت من أجل الآخرين أو مايسمونها التضحيات ، لماذا أحزن إن مات أبي أو أمي أو غيرهم مهما كانوا أحبة ، أليس الحزن مؤلم وقاتل ،لماذا أجوع لأطعم غيري ، نعم لقد كانت زوجتي تتعب وتشقى لأن راتبي الشهري لايكفي ولم أكن أرغب بعمل آخر يُرهقني فقامت هي بذلك حتى ماتت لكنها تركت أولادي يتصفون بصفاتي فقد كنت المسيطر عليهم بسرداب البيت ، ماتت غمًا وشقاءً وهذا اختيارها .
ماذا أقول لهؤلاء الشباب ؟ أني حجارة وكل أولادي مثلي إلا مَن دلَّ علي ليجعلني جسدًا يُرمى بالزجاج لتُترك عليه آثار جروح دون دماء.
لملمت نفسي ونفشتها قليلا لأكون صاحب رأي و مشورة فقلت :
أرى أن تقسموا ناديكم إلى قواطع وكل واحد منكم يجلس حيث يتقبله الآخر ويطابقه في الرأي . أظن ذلك سيكون حلا للفوضى ويكون النظام وشرب القهوة والشاي وغيرها وسيزيد رواد النادي ويتوسع حتى يشمل كل البلد .
ثم قهقهت .
ساد الصمت .
سعل القائد قليلا ثم قال : اظنها تجربة مثيرة للاهتمام وسنترك لك قاطعًا ليجلس معك وإليك مَن يتفق معك .
شعرت بالتحدي وقلت : موافق .
أجاب حفيدي الكريه من خلفي : هيا ياجدي غدًا نأتي معًا إلى هنا . الآن سيتم تجهيز النادي .
عدت للبيت وجلست حيث وجدت ابني السبعيني وحيدًا في الصالة و حدثته بما كان معي ، ضحك قائلا :-
سأكون معك في قاطعك وسآتي بالجميع معي لنكون حزبًا
انتشيت وصعد الخبث والحقد في رأسي ورغبة بأن أدوس بحذائي على هؤلاء ومعهم حفيدي الكريه.
اليوم التالي .
اجتمع الكل من أولادي و أحفادي ليقف حفيدي الكريه أمامنا مبتسمًا وهو يقول : رائع إنها تجربة فريدة.
وصلنا وكان نادي الفوضى قد تم تحضيره لما تقرر ،لكن وقف قائدهم قائلا : هناك تعديل بسيط. سيقوم من كل مجموعة شخص واحد ليطرح فكرة نقاشه على مجموعة أخرى ومن يتغير فكره منهم ويتفق معه يتحول إلى قاطعه حتى نرى كيف سيتغير الحال وعدد كل مجموعة بعد كل نقاش .
أذهلني عقله ، لكنني ثابت ولن يتمكن مني أحد .
وهكذا بدأت التجربة وكان بعد كل جلسة تغييرات كبيرة والمخيف أني فقدت جميع أحفادي وصرت وحيدًا مع أولادي الثلاثة ..الذين اختاروا بعدها أن يكونوا قرب أولادهم والذي أدهشني أن القواطع كلها تناثرت فقد مال الجميع إلى نقاش هادئ وسبيل الاقناع وهم يذكرون تاريخًا كنت أُدَّرسه ليجعلون منه جسرًا نحو حرية التعبير والرأي وقوة التحمل لحمل الواجبات التي كان يحملها رجال حَوتهم كتب التاريخ وناموا عبر أوراقها لقرون . لن يكون لي مكان في أي ورقة لأني اكتفيت بعمر طويل وراحة بال .
كان النادي يتسع وصار أهل بيتي يتجمعون هناك ، كانت رائحة القهوة تطيع الأفكار الجديدة ونقاشات عامرة وصار البيت يغمرني بسكون تراب القبر .
في اليوم التالي جاؤوا أبنائي و أحفادي ليطلبوا مني أن أسير قبلهم فهم يحملون الآن حب الأرض والناس ولابد أن أكون معهم وأن لا أترك الأيام القادمة موتًا كالسابق ، عطرّوا أنفاسي حين قالوا بأنني أنا من طرحت الفكرة التي جعلت كل الناس من حولي منضمين إلى نادي الفوضى الذي أصبح نظاما جديدا للفكر والوجود .
صرت أذهب معهم و أسمع من الجميع وليس مهمًا أن أعيش لقرن اخر .
ربما سيكتب عني أحدهم فيذكرني التاريخ تحت عنوان نادي الفوضى .