الجانب المظلم للطفرة االقتصادية في العراق
التدفقات المالية غير المشروعة ، شبكات الميليشيات وواحة العقارالوهمية
سام بتلر
الاقتصاد العراقي في خضم مفارقة صارخة .فمن ناحية ،تشهد بغداد وغيرها من المدن الكبرى في العراق موجة من المشاريع العقارية الطموحة ومراكز التسوق البراقة واألبراج الفاخرة التي تهدف إلى إبراز صورة االستقرار والحداثة. ومن ناحية أخرى ،تكشف التسريبات عن كيفية إساءة استخدام النظام المالي في البالد من قبل شبكات مرتبطة بميليشيات ُمول حقًا برأس مال
مدعومة إيرانيًا ومصارف فاسدة ،مما يثير تساؤالت ملحة :أي جزء من هذا األفق العمراني الجديد ي َّ مشروع ،وأي جزء هو ببساطة أموال قذرة تختفي وراء واجهات من الزجاج والفوالذ؟
مؤخرا الضوء القاسي على هذه الحقيقة .ووثّقت تقاريرها كيف تم استغلال وسلطت صحيفة "وول ستريت جورنال"
ًالمؤسسات المالية العراقية لتحويل مليارات الدوالرات إلى الخارج ،غالبًا تحت غطاء الواردات أو اإلنفاق االستهالكي.
من صفقات تجارية بفواتير مبالغ فيها إلى جيوش من بطاقات "كي" المسبقة الدفع التي يتم سحب أموالها من أجهزة
الصراف اآللي في جميع أنحاء اإلمارات ،كشفت هذه المخططات ليس فقط عن هشاشة النظام المصرفي العراقي ولكن
أيضًا عن الحجم الهائل للتدفقات المالية غير المشروعة التي تهرب من البالد .وترتبط هذه الكشوف مباشرة بظاهرة
أخرى تعيد تشكيل المراكز الحضرية في العراق اآلن :طفرة في البناء العقاري والتجاري التي ،رغم كل ما تعد به ،تحمل
ازدهارا حقيقيًا ،قد تكون موجة البناء والتجزئة هي المرحلة األكثر
أيضًا بصمات التمويل الخفي .فبدالً من أن تعكس
ً
وضو ًحا في آلة غسيل أموال ضخمة ،تديرها الميليشيات المدعومة من إيران ووكالؤها الماليون.
بغداد عادت فجأة إلى الموضة مرة أخرى ،مدينة تنتصب فيها األبراج ومراكز التسوق والمطاعم من بين أنقاض حروب
استمرت لعقود .المقاهي مزدحمة ،ورافعات البناء تمأل األفق ،والعالمات التجارية األجنبية تختبر مياه سوق استهالكية
كانت مغلقة لفترة طويلة .يمكن للمشهد أن يبدو وكأنه نهضة اقتصادية ،إذا أغمضت عينيك بقوة كافية لتتجاهل من الذي
يدفع الفاتورة.
هذا التوتر ،بين بغداد كمدينة تشهد طفرة وبغداد كمنظفة أموال ،هو ما يحدد مفارقة العراق .الزجاج والفوالذ قد يكونان
حقيقيين بما فيه الكفاية .لكن السؤال هو هل األموال التي تقف خلفهما حقيقية أيضًا.
الجريمة القائمة على التجارة
غسل األموال القائم على التجارة ليس بالجديد على العراق .فمزيج االقتصاد المعتمد بشدة على النقد ،والرقابة الجمركية
الضعيفة ،والشبكات ذات العالقات السياسية المشبوهة ،يجعل البالد معرضة للخطر بشكل خاص .كل عام ،تهرب
مليارات الدوالرات من العراق على الورق مقابل واردات ال تتحقق بالكامل أبدًا .تشير التقديرات إلى أن ما يقارب 70
مليار دوالر تُنفق سنويًا على الواردات ،بينما تدير البالد فعليًا بضائع بقيمة 20مليار دوالر فقط .تصبح هذه الفجوة آلية
مثالية لتحويل الثروات غير المشروعة إلى الخارج دون ترك أي أثر تقريبًا.
تستغل الميليشيات وشبكات التهريب هذه الثغرات بعدة طرق .فالفواتير المبالغ فيها أو المخفضة تسمح باإلعالن عن
الواردات بقيم مبالغ فيها لشرعنة تحويل األموال إلى الخارج .الشحنات الوهمية تتضمن بضائع ُمعلن عنها ولكن ال يتم
تسليمها أبدًا .الفواتير المزدوجة تخلق نسخة للجمارك وأخرى للمصارف ،مما يحجب التكلفة الحقيقية .كما يتم تحويل
الوقود العراقي المدعوم عبر الحدود ،مما يدر أكثر من مليار دوالر سنويًا إليران ووكالئها ،وفقًا لرويترز.
وتذهب تقارير "وول ستريت جورنال" إلى أبعد من ذلك ،موثقة كيف لجأت الميليشيات إلى أنظمة الدفع الحديثة أيضًا.
من خالل استغالل الثغرات في أنظمة "فيزا" و"ماستركارد" العابرة للحدود ،استخدموا بطاقات "كي" المسبقة الدفع
لسحب مبالغ طائلة في الخارج وإعادة تدوير الدوالرات إلى األسواق الموازية في العراق بربح .في ذروتها ،نقل هذا
المخطط ما يصل إلى 1.5مليار دوالر شهريًا .باختصار ،العراق ال يفقد المال ببساطة بسبب الفساد .إنه يشاهد شرايينه
المالية نفسها يتم تحويل مسارها من قبل فاعلين يمتلكون النفاذ والسلطة وحماية الميليشيات.
قوة الحشد الشعبي :من ميليشيات إلى شركات
قوات الحشد الشعبي ،المظلة العراقية للميليشيات المدعومة إيرانيًا ،ليست فاعالً عسكريًا فحسب ،بل هي فاعل اقتصادي
قرة من الدولة تصل إلى مليارات الدوالرات ،وسيطرة واسعة على نقاط التفتيش وطرق التجارة،
أيضًا .بميزانية ُم ّ
وحصص ملكية في شركات تمتد من البناء والنقل إلى الطاقة والتجزئة ،تجلس قوات الحشد في مركز االقتصاد الخفي في
العراق.
قطاع الطاقة مربح بشكل خاص .فالجماعات المرتبطة بالحشد متجذرة بعمق في اقتصاد الوقود العراقي ،من تهريب
البترول المدعوم عبر الحدود ،إلى السيطرة على مستودعات النفط وعقود الكهرباء .ال تدر هذه األنشطة المليارات
فحسب ،بل تمنح الميليشيات نفوذًا على الحياة اليومية ،إذ إن النقص المزمن في الوقود والطاقة في العراق يجعل السيطرة
على سالسل التوريد سال ًحا سياسيًا قويًا.
بينما تعمل بعض هذه الكيانات بشكل علني ،فإن البعض اآلخر قد تعرض بالفعل لعقوبات أمريكية أو تم تصنيفه بموجب
ً
حافزا قويًا لغسل األموال :يجب تدوير األموال الناتجة عن التهريب أو االبتزاز أو
إجراءات تمويل اإلرهاب .وهذا يخلق
عقود الدولة ال ُمبالغ في قيمتها إلى مشاريع تبدو مشروعة لتبقى .يتدفق جزء كبير من االقتصاد النقدي في العراق عبر هذا
النظام ،حيث تُصقل األرباح غير المشروعة إلى إيرادات رسمية.
للمراقبين العراقيين ،فإن الرابط واضح .تعمل األذرع المالية للحشد كحراس بوابة ومنظفات أموال في آن واحد ،محولة
األموال إلى مشاريع تتراوح من شركات الخدمات اللوجستية إلى سالسل المتاجر" .هذه الجماعات لديها شركات أكثر مما
لدى الحكومة من وزارات" ،كما الحظ أحد االقتصاديين العراقيين على انفراد" .وعندما تضرب العقوبات ،ال يتوقف
تدفق النقد ،بل يحتاج فقط إلى مسار أنظف".
هذا يفسر pourquoiأصبحت مراكز التسوق والمشاريع العقارية وشركات االمتياز التجاري جاذبة لرأس المال .بالنسبة
للحشد وأعوانه السياسيين الحلفاء ،الهدف ليس الربح فحسب ،بل الشرعنة :دمج األموال غير المشروعة في االقتصاد
الرسمي للعراق مع تقديم أنفسهم كأصحاب مصلحة في انتعاش البالد.
واجهة بغداد الجديدة
على خلفية هذه التدفقات الخفية ،تتغير مدن العراق.
· يروج لمول الرافدين في بغداد ،الذي تبلغ مساحته قرابة مليون متر مربع ،باعتباره أكبر مجمع متكامل للتجزئة والترفيه
في البالد .ويعد بشوارع للتسوق ومدينة ألعاب ومساحات خضراء ومجموعة من المحالت الفاخرة.
متجرا ومطع ًما وأبراج
· من المقرر أن يفتتح "آيراك مول" بحلول آب/أغسطس ،2025ويحتوي على أكثر من 350
ً
سكنية وحتى فندق خمس نجوم.
· مشروع "بغداد أفينيو" المدعوم سعوديًا بقيمة مليار دوالر بالقرب من المطار ،يزعم أنه سيقدم أكبر مركز تجاري في
العراق إلى جانب فلل ومجمعات مكاتب ومناطق ترفيهية.
· في كردستان ،يجمع مشروع "إمباير وورلد" في أربيل ،بقيمة 2.7مليار دوالر ،بين السكن الفاخر واألبراج التجارية
ومرافق الحياة اليومية في مخطط رئيسي واحد.
لقادة العراق ،هذه المشاريع هي رموز للتعافي .إنها توحي ببلد منفتح لألعمال ،قادر على جذب العالمات العالمية
ومتشوق لتقديم نفسه كأكثر من مجرد مشهد ما بعد الحرب .ولكن تحت التصاميم الالمعة مباشرة يكمن السؤال الذي
تفرضه علينا قصة "وول ستريت جورنال" :من يمول كل هذا؟
سا في أوساط األعمال البغدادية ،هي نفسها في كل مرة :وراء كل مشروع يقف قائد ميليشيا
اإلجابة ،التي تتردد هم ً
وسياسي ،رغم أن سندات الملكية واألموال تُترك لماليين ورجال قش مستعدين للتواجد في المقدمة نيابة عنهم.
هذه اإلجابة ،أو على األقل الشك ،هي جزء من السبب وراء تردد مجموعات الضيافة الدولية في ربط أسمائها بهذه
المشاريع .أحد مشاريع المجمعات التجارية الضخمة في بغداد ،والذي يُروج له على نطاق واسع كمنارة للتجزئة األجنبية،
تقدم بشكل غير معلن إلى بعض أرقى العالمات الفندقية في العالم ،بما في ذلك كيمبنيسكي وأكور .رفض االثنان .لم يكن
كثيرا بإمكانات السوق العراقية ،التي تبقى جاذبة للمبادرين األوائل ،بل كان مرتب ً
القرار مرتب ً
طا بشكل كامل بالسمعة.
طا
ً
"بالنسبة للعالمة التجارية الدولية ،السمعة هي كل شيء" ،قال أحد مسؤولي كيمبنيسكي ،متحدثًا بشرط عدم الكشف عن
هويته بسبب حساسية الموضوع" .عندما تكون هياكل الملكية غير شفافة أو مرتبطة بشبكات تحت العقوبات ،ال يمكن ألي
قدر من إمكانات السوق أن يبرر المخاطرة" ،تابع المسؤول.
في قطاع حيث السمعة بقيمة اإليرادات ،فإن الرفض يعبر عن الكثير.
االقتصاد تحت السطح :من برجر إلى مليارات
مفتاح فهم كيفية تضمين رأس المال غير المشروع نفسه في العراق ال يكمن فقط في األبراج الضخمة أو هياكل
المجمعات التجارية ،بل في المشاريع الصغيرة كثيفة النقد التي تنشطها .المطاعم ومحالت المالبس والسوبرماركت
وصالونات التجميل وشركات البناء الصغيرة وأماكن الترفيه هي بالضبط أنواع األعمال التي تشكل واجهات مثالية لغسل
األموال.
االمتيازات التجارية الدولية والسالسل المحلية بدأت تدخل المدن العراقية .مطاعم الوجبات السريعة مثل KFCوبيتزا هت
وبرغر كينغ وتجار التجزئة لألزياء بما في ذلك زارا ومانغو وال سي وايكيكي ،يختبرون الطلب بين السكان الحضريين
الشباب .بالنسبة للعديد من هذه الشركات ،يتم التوسع من خالل نماذج االمتياز التجاري أو الترخيص التي تحد من
التعرض المباشر لمسائل الملكية .هذا النموذج التجاري يسهل أيضًا على الشبكات غير المشروعة دمج األموال القذرة في
إيصاالت مشروعة :عن طريق تضخيم اإليرادات اليومية النقدية ،أو تزوير فواتير مزيفة ،أو توجيه أموال غير مسجلة
عبر شركات واجهة.
دورة غسل األموال تتبع نم ً
طا مألوفًا .التوظيف يُدخل العائدات غير المشروعة إلى النظام عبر مبيعات نقدية مبالغ فيها.
التدريج يحجب األثر من خالل تحويل األموال عبر عدة أعمال أو عبر فواتير مزورة .الدمج يعيد األموال كأرباح تبدو
مشروعة ،غالبًا ما يعاد استثمارها في مشاريع عقارية أكبر.
الخطر هو أن هذه المشاريع التي تبدو عادية ،كسلسلة مطاعم برجر ،أو متجر مالبس ،أو وكالة سيارات ،يمكن أن تصبح
قنوات للتدفقات غير المشروعة .هذا يعرض حتى العالمات التجارية االستهالكية المشروعة لخطر السمعة والقانوني
عندما يتم استخدام شركائها في االمتياز أو مورديها من قبل شبكات التهريب المدعومة إيرانيًا والماليين المرتبطين
بالميليشيات لغسل العائدات.
برا من العراق
وأكد مصدر أمني عراقي رفيع مستوى حجم المشكلة" .الكثير من البضائع األمريكية المحظورة يتم نقلها ً
إلى إيران" ،قال المسؤول ،متحدثًا بشرط عدم الكشف عن هويته" .الكثير من منافذنا effectivelyتحت سيطرة
الميليشيات ،يمكنهم تحويل النقد والبضائع بالسفن برقابة ضئيلة .حتى مع اإلجراءات الجديدة للبنك المركزي العراقي ،فإن
الحقيقة هي أن هذه الشبكات ال تزال تسيطر فعليًا على نقاط الدخول والخروج الرئيسية".
منظفة أموال كالسيكية
عالميًا ،يظل القطاع العقاري أحد أكثر الطرق فعالية الستيعاب الثروات غير المشروعة .فهو يقدم هياكل ملكية غير
شفافة ،مع عقارات مسجلة باسم شركات وهمية أو وكالء يحجبون المالك الحقيقي .ويسمح بتقييمات مرنة بشكل مصطنع:
يمكن تقييم البرج أو المجمع التجاري أو الوحدة السكنية بأي مستوى تقريبًا ،مما يمكن من استيعاب األموال غير
المشروعة دون إثارة الشكوك .واالقتصاد العراقي الثقيل بالنقد يجعل تدوير القيمة أسهل دون وجود آثار مصرفية
واضحة.
بالنسبة للعراق ،تتضخم هذه المخاطر بسبب اإلطار التنظيمي الضعيف .فقد بدأ البنك المركزي في تشديد الرقابة ،وخفض
عتبات اإلبالغ اإللزامي عن المعامالت العقارية .لكن التنفيذ يبقى غير متسق ،والفاعلون األقوياء غالبًا ما يكونون فوق
المساءلة .هذا يخلق عاصفة كاملة :تدفقات هائلة لرأس المال غير المشروع ،رقابة هشة ،ومشاريع تحتاج إلى تمويل
ضخم .المجمعات التجارية الالمعة واألبراج الفاخرة الجديدة قد تكون أكثر المعالم visibilityللعراق كدولة تتقدم ،ولكنها
قد تكون أيضًا منظفات األموال األكثر فعالية فيه .بالنسبة للنخبة السياسية العراقية ،هذه األبراج والمجمعات التجارية
ليست مجرد استثمارات ،بل هي بوالص تأمين ،أصول تخزن القوة وتحمي الثروات غير المشروعة حتى بعد انتهاء
فترات المنصب أو معارك الميليشيات.
طا باالستثمار المشروع وأكثر ارتبا ً
لذا ،بينما يرتفع أفق العراق بالزجاج والفوالذ ،فإن األسس قد تكون أقل ارتبا ً
طا
بتحويل التدفقات غير المشروعة إلى أصول للهيبة .بالنسبة للعراقيين العاديين ،هذا يعني مستقبالً قد تلمع فيه المجمعات
التجارية لكن المساءلة تبقى في الظالل ،وحيث تفضل العالمات العالمية ،الحذرة من أن تتلوث سمعتها ،أن تبقى على
مسافة.
حتى واشنطن قد الحظت األمر" .الشبكات التي تقف وراء هذه المشاريع موجودة بالفعل على رادارنا ،وإدارة ترامب
مستعدة للتحرك" ،قال مسؤول رفيع في وزارة الخزانة األمريكية" .لن نسمح بإساءة استخدام النظام المالي العراقي بطرق
تهدد األمن القومي للواليات المتحدة".
وراء طفرة بغداد من الزجاج والفوالذ ،يكمن نظام لغسل األموال وتهريب الميليشيات وشبكات مالية غير مشروعة
موجود بالفعل على رادار واشنطن.
الرسالة واضحة :ما يبدو للبعض وكأنه طفرة براقة قد يُنظر إليه قريبًا من قبل آخرين كمؤشر خطر ،وقد يؤدي سعي
العراق إلبراز صورة الطبيعيّة بسهولة إلى مواجهته القادمة مع النظام المالي العالمي.