السليمانية .. مدينة الفكر والفقر

كامل الدليمي

حين تطأ قدماك مدينة السليمانية، تشعر أنك تدخل فضاءً مختلفًا؛ مدينة لا تشبه المدن الأخرى، فهي تضج بالفكر رغم ضيق الحال، وتفيض بالمعرفة رغم قسوة الواقع. مدينةٌ تختصر التناقض الإنساني بين الوعي والمعاناة، بين وهج الفكر وظلمة الفقر.

لقد أدهشني ما رأيت خلال زيارتي لهذه المدينة التي وُلدت فيها الكلمة الحرة، وتربّت على ضفافها أقلام المفكرين والمناضلين والمبدعين. في مقاهيها الصغيرة، وفي أزقتها القديمة، يلتقي الشعر بالفلسفة، ويجلس المثقف جنبًا إلى جنب مع العامل البسيط يتبادلان همّ الحياة وحديث الأدب. السليمانية لا تزال ـ رغم كل شيء ـ تحافظ على تقاليدها العريقة في الحوار، والقراءة، والنقاش الفكري الذي لا يخلو من حرارة الموقف وصدق الانتماء.

متاجر صغيرة

لكن المفارقة المؤلمة أن هذه المدينة التي أنجبت أجيالًا من الكتّاب والمنظرين والفنانين، تعاني اليوم من فقرٍ يضرب عمق نسيجها الاجتماعي. شوارعها تشهد ذلك بوضوح: متاجر صغيرة بالكاد تفتح أبوابها، شباب يبحثون عن فرصة ضائعة، وأسر تكافح لتأمين لقمة العيش. الفقر هنا ليس ماديًا فقط، بل أصبح شعورًا جمعيًا يثقل حياة الناس ويحدّ من أحلامهم.

ومع ذلك، لا يزال أهل السليمانية يقاومون الفقر بالكتاب. في كل بيتٍ تقريبًا تجد رفًا صغيرًا للكتب، وفي كل حديثٍ شعبي يتسلل موضوع عن الفكر أو السياسة أو التاريخ. كأن الثقافة صارت ملاذهم الأخير في وجه القهر الاقتصادي. هذا التمسك بالمعرفة وسط المعاناة هو ما يجعل من السليمانية مدينةً فريدة في معناها ودورها؛ فهي لا تنتج البضائع، بل تنتج الأفكار.

إن السليمانية اليوم بحاجة إلى التفاتة حقيقية، تنقذها من ضيق العيش دون أن تطفئ فيها جذوة الإبداع. فكما لا يجوز أن يعيش الفكر في عزلةٍ عن واقعه، لا يجوز أن تبقى مدينة الفكر غارقة في الفقر.

السليمانية ليست مدينة عادية، إنها ضميرٌ ثقافيٌّ حيّ في جسدٍ متعب، وروحٌ تُقاوم بالمفردة جوعها اليومي. ومن واجب كل من يقدّر الفكر أن يمدّ إليها يده، كي تظل منارة الحرية والإبداع كما كانت دائمًا .