مجاعة الفكر.. أزمة الشعوب العربية والإسلامية
عبدالكريم الحلو
مقدمة :
--------
* في طفولتي كنتُ أرى الجوع في وجوه الناس، فأحسب أن أقسى ما يهدد الإنسان هو خلوّ المائدة من الخبز.
* لكنني حين كبرت، أدركت أن ثمة جوعاً أعمق وأشدّ فتكاً :
* هو جوع العقول.
* إنه ذلك الصمت الثقيل حين يُسأل العقل فلا يجد جواباً، وتُستدعى الروح فلا تملك سوى التقليد.
* جوع يقتل الحلم قبل أن يقتل الجسد، ويحوّل الأمم إلى قوافل تمشي بلا بوصلة، تسير خلف أوهام تُزرع لها، وتستهلك أفكاراً لا تنتجها.
* في عالمنا العربي والإسلامي، حيث يمتلئ التراب بالثروات وتفيض الذاكرة بالتراث، نجد paradox غريباً: وفرة في الموارد وشحاً في الفكر.
* هنا فقط نفهم صرخة علي شريعتي
* وهو يقول:
“إن مجاعة الفكر أفجع من مجاعة العيش.”
* ليست الكارثة في أن يجوع الإنسان لقمته، بل في أن يُصادر عقله، فيتربى على التبعية، ويُعلَّم أن التفكير جريمة، وأن السؤال فتنة.
* هناك تبدأ المجاعة الحقيقية، مجاعةٌ تجعلنا نعيش في وفرة ظاهرية، لكن بعقول خاوية لا تقوى على حمل أمانة التغيير.
* لهذا اغرس المفكر الإسلامي علي شريعتي أثره العميق في ضمير الإنسانية، ثم رحل تاركًا لنا كلمته الخالدة:
“ إن مجاعة الفكر أفجع من مجاعة
العيش”. .
* هذه الجملة ليست مجرد تأمل فلسفي، بل صرخة وعي مدوية موجهه إلى جوهر الأزمات التي تعصف بالشعوب العربية والإسلامية في العصر الحديث.
* فهي تضع اليد على الجرح العميق: جوع العقول قبل جوع الأجساد، وانعدام الرؤية الواعية قبل انعدام الموارد المادية.
1- مجاعة الفكر : تعريف وتأثير :
----------------------------
* مجاعة الفكر تعني انحسار الحرية الفكرية، وغلبة الجمود والاصطفاف وراء السلطة أو التقليد، بحيث يصبح الإنسان تابعًا للخطاب المزيّف، لا مفكرًا أو مبتكرًا.
* في العالم العربي والإسلامي، أدى هذا الفراغ الفكري إلى انتشار العنف الرمزي، وتراجع القدرة على النقد الذاتي،
* واستسلام المجتمعات لأيديولوجيات لا تخدم مصالحها الحقيقية.
2- المؤسسات والتعليم:
مصنع العقول المغلقة
----------------------
* أكبر مظاهر مجاعة الفكر تكمن في منظومات التعليم الجامدة،
* التي تركز على الحفظ والتلقين،
* لا على النقد والتحليل،
* وفي الإعلام الموجه ( البروباغاندا ) الذي يصنع رأيًا عامًا عاطفيًا وغير واعٍ.
* وبدل أن يصبح التعليم أداة للتمكين والإبداع، تحول إلى آلية لإعادة إنتاج الخضوع الفكري، مما يعمق الفقر المعرفي ويضاعف الاعتماد على القوى الخارجية في صياغة المستقبل.
3- السلطة والفساد: الحصار المزدوج
-----------------------------------
* السياسات الاستبدادية والفاسدة تعيق الفكر الحر،
* إذ تُستغل السلطة لفرض الرأي الواحد وإسكات الأصوات الناقدة.
* ينتج عن ذلك مجتمع مطواع، لا يسعى للتغيير، بل ينتظر الحلول من الخارج، معتمدًا على ترف السياسة الدولية أو تحالفات القوى الكبرى، وهو ما يكرر دورة التخلف والاستسلام.
4- الاستلاب الثقافي: خطر على الهوية
------------------------------------
* مجاعة الفكر تجعل الشعوب أكثر قابلية للاستلاب الثقافي، إذ يتم استيراد الأفكار والقيم على حساب التراث والهوية المحلية.
* وفي ظل غياب النقاش الجاد والوعي النقدي، تتحول المجتمعات إلى مساحات فارغة للهيمنة الثقافية والسياسية،
* ويصبح المواطن مجرد تابع للقرارات المفروضة عليه، لا صانع لها.
5- الطريق إلى التحرر :
--------------------
* علي شريعتي، الذي رأى في الفكر أداة للتحرر والتحول، يدعونا إلى مواجهة هذه المجاعة الفكرية بثلاثة أدوات رئيسية:
* التعليم النقدي والمفتوح :
* تعليم يزرع القدرة على التساؤل، والتحليل، والابتكار، لا مجرد الحفظ والتكرار.
* حرية التعبير والمساءلة:
* فضاءات فكرية حرة تمكن الفرد من مواجهة السلطة بالكلمة الصادقة والمعلومة الدقيقة.
* الوعي الجمعي والتضامن:
* بناء مجتمع مدني قادر على مقاومة الهيمنة الفكرية والسياسية، وخلق ثقافة تشاركية ترفع من مستوى الفكر العام.
خاتمة :
------
* مجاعة الفكر أفجع من مجاعة العيش، لأنها تصنع عبيدًا للأفكار المهيمنة قبل أن تصنع عبيدًا للجوع.
* الشعوب العربية والإسلامية لن تنهض إلا عندما يتحرر الإنسان من القيود الفكرية، وعندما يصبح السؤال والبحث والابتكار جزءًا من هويته.
* إنها دعوة وعي ، ليست لتغيير السياسات أو الأنظمة، بل لإعادة بناء وعي شامل، يضع الإنسان في قلب صرح الحضارة، ويعيد للفكر دوره كأداة للحرية والكرامة.
* لذلك قد يجوع الجسد يومًا فيستجدي لقمة، فتسدّها يد كريمة أو رزق طارئ، لكن حين يجوع الفكر، لا يُشبع جوعه مالٌ ولا طعام، بل يظل فراغًا يمتد من الفرد إلى الأمة بأكملها.
* إذن مجاعة العيش قد تُميت جسداً،
* أما مجاعة الفكر فتُميت أمة بأجيالها، لأنها تسلبها القدرة على أن تحلم أو أن تختار.
* ولهذا لن تنهض شعوبنا ما لم تدرك أن الحرية تبدأ من العقل،
* وأن الكرامة لا تُشترى،
* بل تُبنى على وعيٍ راسخ،
* وسؤالٍ حيّ،
* وفكرٍ لا يقبل أن يُستعبد.
وهنا فقط نفهم لماذا قال الإمام الشافعي:
“إن الله خلقك حرًّا… فكن حرًّا كما خلقت.”
* فمن يشبع عقله بالوعي،
* لن يعرف الجوع مهما ضاقت به الدنيا،
* ومن يترك عقله للجوع،
* فلن تنفعه مائدة عامرة بكل ما لذّ وطاب.