أذن وعين
غوستافو بيترو القادم من عالم آخر
عبد اللطيف السعدون
إلى عهد قريب لم يكن أكثرنا قد تعرف إلى غوستافو بيترو، حتى أهل غزة لم يكونوا يعرفونه قبل أن يرفع صوته من أجل خلاصهم، غوستافو بيترو قدم إلينا من عالم آخر، ومن تراث مختلف، من بلاد الأمازون التي يقول تراثها الأسطوري أنها تختبر رجالها بقدرتهم على إبقاء عيونهم مفتوحة، وأيديهم على الزناد حتى وهم راقدون على أسرة النوم، كما تختبر نساءها بمقدار حماسهن في المشاركة في حروب الرجال لدرجة أنهن لا يتورعن عن قطع أثدائهن لكي يستطعن إطلاق السهام بمرونة عند مواجهة الأعداء.
غوستافو بيترو ابن الأمازون يعطينا دروسا ليس في الصمود فحسب، إنما بالمواجهة المباشرة مع الأعداء، يعرض علينا 20 ألفا من رجاله كنواة لقوة عالمية تحرر فلسطين، واضعا نفسه واحدا منهم، وداعيا دول العالم كي تشارك في قوة كهذه، ينبهنا «أن الشجب والتنديد وحدهما غير كافيين لمواجهة جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين»، ومطالبا بأن يحال زعماء اسرائيل الى المحكمة الجنائية الدولية لضلوعهم في ارتكاب جرائم حرب وابادة، ومصنفا الرئيس الأميركي دونالد ترامب شريكا في الجريمة.
وبيترو الذي كسر طوق سيطرة اليمين على القرار في بلاده التي امتدت دهرا، وعطف بلده نحو اليسار على نحو لم يتوقعه أحد أعادنا بطروحاته الأخيرة أمام المحفل الدولي الى زماننا الذهبي الذي رحل مع أهله، الذي كانت فيه فلسطين قضيتنا الأولى، أيقظ بيترو فتوتنا، وداعب آمالنا، وغامر في أن يكرس حلم أن تتحرر فلسطين، وينهي الفلسطينيون رحلة التيه الطويلة بعدما تكسرت النصال على النصال، قال لهم إن الحلم الذي أوشكت أن تطويه الأيام أصبح على مقربة من التحقق.
حياة وكرامة
غمز بيترو من قناتنا عندما ذكرنا بأن زمن الأقوال آن له أن ينتهي، وآن على العرب أن يقدموا على فعل، و»أن يعيدوا التفكير في مسألة الحياة والكرامة» لكننا لم ننصت له، ولم نذكره بالخير فقد أخذتنا همومنا اليومية بعيدا بعدما فرض علينا حكامنا البحث الدائب عن فسحة ضوء أو جرعة ماء، أو حبة دواء، وفقدنا قدرتنا على الكفاح من أجل حياة كريمة عادلة، ولم يعد هتافنا «هيهات منا الذلة» سوى مثار للسخرية والتهكم من قبل أصدقائنا قبل أعدائنا، وفي أحسن الأحوال كان مدعاة لجلد الذات، والانكفاء على النفس، فيما الذلة تحيط بنا من كل جانب، ولم يبق لنا سوى انتظار ما تجيء به الأيام، ونحن صاغرون.
حتى قنواتنا الفضائية وصحفنا تجاهلت طروحات بيترو ولم تأبه لها، وربما أشار بعضها إليها عرضا، أو من قبيل لزوم ما لا يلزم، ولم تكلف تلك القنوات والصحف نفسها عناء التعريف بقائلها الذي وضع صورة العلم الفلسطيني على صفحته الشخصية في «فيسبوك»، كما فتح شارعا في عاصمة بلاده بوغوتا باسم «شارع دولة فلسطين»، وجعل فلسطين قضيته مع أنه يقيم في قارة بينها وبين فلسطين آلاف الأميال، كما لم يتورط المحللون الذين يقرعون أسماعنا بتعليقاتهم السمجة كل ساعة في التعليق على ما دعا إليه بيترو ربما لأن لا أحد سيدفع الثمن، وحتى قارئو المستقبل، وما تضمره الأبراج لم يدرجوا في نبوءاتهم اسمه لأنه لم يعد من ذوي الحظوة لدى الحكام، خاصة بعد أن اتخذ الأميركيون قرارا بإلغاء تأشيرة دخوله إلى الولايات المتحدة، ذلك القرار الذي قابله بيترو بإشارته اللافتة في أنه غير مهتم بذلك، ولا يحتاج إليه، وهو «رجل حر، وليس مواطنا كولومبيا فحسب إنما مواطن أوروبي أيضا».
حكاية بيترو هذه لم تنته فصــــــــولا فقد نـــزل في شــوارع نيويورك ليقـود تظاهرة بنفسـه من أجل فلسطين في واقعة نادرة تحسب له، وقد اختار هذا الموقف الاستثنائي الذي لم يكن رئيس دولة ليتجرأ أن يقدم عليه لكن بيترو نموذج متفرد في لعبة الحكام فقد عرف النمط البروتوكولي في التعامل، وتمكن من كسره بشكل رائع، كل ذلك كان من أجل فلسطين التي جعلها قضيته، وقد اختار الشارع مكانا لإعلان موقفه هذا المدهش وغير المألوف.
وبعد هذا كله، دعونا إذن نذكر غوستافو بيترو بالخير، ونحتفي به، وبطروحاته، وأن نبادله المحبة بالمحبة، والتقدير بالتقدير.