من سنوات طفولة الجواهري وملا جناب عالي وصندوق العقارب
جواد الرميثي
كثيرة هي المواقف التي مرت على شاعرنا محمد مهدي ألجواهري عندما كان صبيا ومن تلك المواقف التي ظلت عالقة في ذهنه ورواها في اكثر من مناسبة ، حكاية عن (صندوق العقارب والأفاعي ) .
وملخص هاتين الحكايتين يوم أرسل الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر ابنه ،ابن السادسة او السابعة من عمره (مهدي) وهو الاسم الأصلي للجواهري قبل أن تضاف أليه كلمة (محمد) حيث جرت العادة عند بعض العوائل العراقية المسلمة ان تسبق الاسم بكلمة (محمد) أو (عبد) على قاعدة (خـــير الاسماء ما عُبّد وحُمّد) ، إلى الملا (جناب عالي) ليتعلم القراءة وكتابة النسخ وحفظ القران وكان هذا (الملا) شيخا ً مهيباً يجمع بين البهاء والجمال والقسوة التي ما بعدها قسوة وقد ذاع صيته بين ابناء مدينة النجف الاشرف في التعلم بداية القرن العشرين المنصرم ، الذي لايكاد يخرج عن دائرة تعليمه أي من ابناء الاسر المعروفة في تلك المدينة وكان مكانه في الركن الثالث من الدور الأول للصحن الحيدري الشريف .
لقد عاش الجواهري مرعوباً من قساوة شيخه هذا فأذا صفا الجو عكره فهو يرسل على الولد منهم ويرعبه ، بسبب او من دونه وذلك بفتح صندوق رهيب كان يملكه يحتوي على انواع من العقارب والافاعي وبعدها يطرده بعيدا عنه وكان الشيخ يبتغي بذلك هيبة لنفسه فيهم وبالمقابل فأن تلك الصورة المخيفة (للعقارب والافاعي) تبقى تقض مضاجع الاولاد ..!
كان الشيخ يغلق باب الغرفة وينهال على الطلاب ضربا ويَعد كل ذلك وسيلة ناجحة في التربية والتعليم !! حيث ان الرجل عندما يذهب بأبنه اليه يقول له (الك اللحم والي الجلد والعظم !) وعندما يتاخر (مهدي) قليلا عن حضوره الدرس ، لاي سبب كان ، فأن (جناب عالي) تثور ثائرته ويظهر جبروته على هذا الطفل وياخذ بملاحقته وهو يحمل حزمة من العصي ، والطفل يركض خائفاَ مذعوراَ من هذا الأسد الجبار ، وأضخم شخصية مرعبة في حياته .. فأين يذهب ؟..وجاءت الفكرة !!..
شعور الامان
فالشيخ جناب عالي يمتلك حِب (بكسر الحاء) ماء عزيز جداَ عليه ، وكان فارغاَ كون الفصل شتاءاَ ، وبغريزة الدفاع عن النفس ... قفز مهدي ورمى بنفسه وسط هذا الحب ، وشعر بالامان ، لانه من المستحيل ان يضحي الشيخ بحبه العزيز او ان يصبر اذ مسه احد بسوء ..
واخذ الشيخ يتوعد مهدي ويلوح له بالعصي ويذكره بصندوق العقارب والافاعي ولكن الطفل ظل مقيماً في الحب ، لانه يعلم جيداً ان جناب عالي لن يضحي بالحب مهما كان الامر ، وبعد ان يئس الشيخ من ان يخرج الطفل ، اعطاه الامان بان لايمسه بسوء ان خرج ، وانه (جناب عالي) اذا اعطى كلمة فأنه لن يتراجع عنها ، وهنا طابت نفس مهدي الفزعة وخرج بهدوء من حب الشيخ كبطل منتصر .
وعادت المياه الى مجاريها بين الاثنين ، ولكن كان يعكر صفوها بين الحين والاخر تصرفات هذا الشيخ الجبار ، واستمر مهدي يقرأ ويكتب النسخ على (التنكة) .كان من عادة الاطفال الدارسين عند الشيخ اذا حان وقت الغداء فأنهم يخرجون ماعدته لهم امهاتهم من اكل (وهذا يختلف بأختلاف المستوى الاقتصادي لتلك العوائل) وجناب عالي له ان يختار الطعام الافضل والافخر ، يجمعه ويرسله الى بيته مع عدد من الاولاد يختارهم من الذين يتمتعون بالادب العالي وقبلها يجتمع اليهم ليحدثهم عن بيته (المسكون) بالجن والعفاريت ويعلمهم نشيداً خاصاً يبدأون به عند فتح الباب لهم من دون ان يرفعوا انظارهم الى من يأخذ الطعام منهم ، وكان الاولاد يطيعون كلامه ويطبقونه ، خوفاً منه اولا ولسذاجتهم وتصديق كلامه ثانيا .
وفي احد الايام وقع الاختيار على مهدي ليكون عضواً في مهمة ايصال الطعام الى بيت الشيخ ، وكالعادة انشد الجميع نشيدهم الخاص الذي علمهم اياه شيخهم وبعد فتح الباب لم يستطع مهدي الا ان ينظر الى من فتح الباب لهم ولم يكن بذلك يقصد شيئاً او عاصياً للأوامر لكن حب الاستطلاع والميل الى خرق القاعدة دفعاه لذلك ، فأذا به يرى فتاة غاية في الجمال ، كفلقة القمر، وهنا فهم مهدي السر ..! وظل يختلس النظر كلما جاء لايصال الطعام لبيت شيخه جناب عالي ، وربما كانت الفتاة الحبيسة نفسها تحب ان تتلاقى نظراتهم !.. ومن يدري ؟!