الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عبد الإله الصائغ: صانع الأجيال الأدبية


عبد الإله الصائغ: صانع الأجيال الأدبية

محمد علي محيي الدين

 

في السابع عشر من أيلول/سبتمبر 2025، خيّم الحزن على القلوب، إذ غاب عن دنيانا العلامة الدكتور عبد الإله الصائغ في مغتربه الأمريكي بعد معاناة طويلة مع المرض. كان خبر رحيله صاعقًا، فقد طوى الموت صفحة رجلٍ جمع بين العلم والأدب والنقد والإبداع، وترك فراغًا لن يملأه سواه. لقد كان الصائغ مصباحًا يضيء في عتمة الثقافة، وصوتًا لا يلين في ساحة الفكر، وذاكرة متقدة تستحضر النصوص والتجارب، فيحيا بها جيل بعد جيل.

عرفتُ الراحل عن قرب، وشرفت بعلاقة امتدت سنوات طوال، كنت خلالها جسرًا يصل بينه وبين صحبه من أدباء بابل ورجالاتها. جمعتني به مراسلات عبر البريد الإلكتروني واتصالات هاتفية لم تخلُ من ودّ صادق ودفء إنساني، ظلّت حاضرة حتى أقعده المرض الأخير، فلم يعد قادرًا على الرد. بقيت أتابع حالته عن بعد بقلق ورجاء، حتى بلغني النبأ الأليم، فخسرت فيه أخًا وصديقًا ومعلمًا كبيرًا.

ولد عبد الإله الصائغ في النجف الأشرف يوم 11 آذار/مارس 1941، في بيتٍ عامر بالعلم، مشبعٍ بأصالة المدينة العريقة التي جمعت الدين إلى الأدب، والفكر إلى الفلسفة. هناك تفتحت مداركه، وتعلق قلبه بالمكتبات والمجالس الأدبية والفكرية، حتى غدا وهو يافع قادرًا على خوض النقاشات مع الكبار. أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في النجف والكوفة، ثم التحق بمعهد المعلمين العالي في الأعظمية – بغداد، وهناك، وسط عواصف السياسة والفكر، تشكّل وعيه النقدي، فصار يرى العالم بعينٍ فاحصة، ويقرأ النصوص بما يتجاوز ظاهرها إلى أعماقها.

بدأ حياته العملية معلّمًا في مدارس العراق، لكنه سرعان ما انتقل إلى فضاءات الجامعات، فدرّس في جامعة الموصل ثم جامعة الكوفة، وبعدها جامعة صنعاء، وصولًا إلى جامعة الفاتح في ليبيا. كان في كل محطة يترك أثرًا لا يُمحى في نفوس طلابه، فقد أشرف على عشرات الرسائل الجامعية بين الماجستير والدكتوراه، وخرجت من تحت يديه أجيال أدبية حملت بصمته أينما ذهبت. لم يكن مجرد أستاذ يؤدي واجبه، بل كان مدرسة متفرّدة، يغرس في طلابه حب المعرفة، ويشجعهم على الجرأة في السؤال، مؤكدًا أن النقد ليس حفظًا لنظريات، بل مغامرة فكرية تعيد صياغة الرؤى.

وما يميز الصائغ أنه لم يكتفِ بدور الناقد، بل جمع بين الصرامة العلمية ورهافة الحس الشعري. كتب في النقد الأدبي بروح الباحث المدقق، وكتب الشعر والقصة بوجدان الشاعر الرهيف، فكان يجمع بين ميزان العقل ونبض القلب، وبين منطق الفكرة وحرارة الإحساس. لم تغب مشاركاته عن الندوات والمهرجانات الثقافية داخل العراق وخارجه، حيث عرفه الناس ناقدًا موسوعيًا وشاعرًا لا يني عن بث صوته في كل فضاء أدبي.

خلّف الصائغ إرثًا معرفيًا زاخرًا، تنوّع بين النقد الأدبي، وتحليل العقل العربي، والإبداع الشعري والسردي. ففي ميدان الأدب ألّف كتبًا خالدة مثل الزمن عند الشعراء العرب قبل الإسلام (الكويت 1982، بغداد 1986، القاهرة 1996)، والصورة الفنية في شعر الشريف الرضي (بغداد 1984، كازابلانكا 1998)، والصورة الفنية معيارًا نقديًا (بغداد 1987، القاهرة 1988 و1996)، والإبداع العربي بين الواقع والتوقع، والخطاب الإبداعي الجاهلي والصورة الفنية (بيروت/كازابلانكا 1997)، والخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية (بيروت/كازابلانكا 1998)، وبكائيات على مقام العشق النزاري (طرابلس 1998)، وإشكالية القصة وآليات الرواية (طرابلس 1999)، ودلالة المكان في قصيدة النثر – بياض اليقين (دمشق 1999)، والأدب الجاهلي وبلاغة الخطاب (دمشق 1999)، والنقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير (صنعاء 2000). أما في ميدان تحليل العقل العربي فقد كتب: ظاهرة قتل المبدعين في الحضارة العباسية (بيروت 1993)، ونظرية امتلاك الحقيقة تهددنا بالانقراض (بيروت 1994)، وقراءة مغايرة للعصرين الأموي والعباسي (بيروت 1995)، وظاهرة التصحر في الدراسات العليا – الأكاديميات العربية نموذجًا (بيروت 1996)، وظواهر الانحراف في العقل العراقي من المنبع إلى المصب. وفي الإبداع الأدبي ترك دواوين راسخة مثل عودة الطيور المهاجرة (النجف 1970)، وهاكم فرح الدماء (بغداد 1974)، ومملكة العاشق (بغداد 1980)، وأغنيات للأميرة النائمة (بغداد 1990)، وسنابل بابل (عمّان 1997)، إضافة إلى قصص الأطفال التي نشرها في كتابه حلم بابلي (بغداد 1973).

ولم يقتصر عطاؤه على الكتب، بل نشر مئات المقالات الفكرية والأدبية في الصحف والمجلات، وأطل عبر شبكة الإنترنت بصوتٍ معاصر، منح تجربته بعدًا جديدًا وأتاح لها الانتشار الواسع. ومن أبرز مشاريعه التي لم ترَ النور بعد موسوعة ضخمة أسماها "موسوعة الصائغ الثقافية"، ضمّت تراجم وسيرًا لأدباء وشعراء وكتّاب، واعتنت خصوصًا بتاريخ النجف وفولكلورها، فكتبها بعين الصديق الوفي، لا ببرود المؤرخ، فكشف فيها عن الجوانب الإنسانية لأعلام الثقافة الذين عايشهم.

وقد أجمع طلابه على أنه لم يكن مجرد أستاذ يشرح ويعلّم، بل كان ملهمًا يغرس الثقة في نفوسهم، ويعاملهم شركاء في المعرفة، مرددًا أن "الدرس النقدي ليس وصفًا جامدًا، بل مغامرة فكرية تبقي النص حيًا في الذاكرة." أما زملاؤه فأكدوا أنه ذاكرة ثقافية حية، يستحضر النصوص والشواهد والأحداث في مجالسه، حتى ليشعر محاوره وكأنه خرج لتوه من مكتبة عامرة بالكتب. وكان إلى جانب ذلك إنسانًا وفيًا، دافئًا، صادقًا في عاطفته، محبًا لأصدقائه وطلابه، يكتب عن الناس بعاطفة صافية تكشف ما تخفيه أرواحهم.

ظل عبد الإله الصائغ وفيًّا لمدينته النجف، يذكرها في كتاباته ويستعيد صورها في قصائده، رغم تنقله بين العواصم واستقراره أخيرًا في الولايات المتحدة. وهناك، في غربته، لم يتوقف عن العطاء، بل واصل نشاطه الأكاديمي والإبداعي، وظل صوته الحر مدافعًا عن الكلمة وكرامة الإنسان، محتفظًا بجرأته الفكرية وصلابته النقدية.

لقد رحل عبد الإله الصائغ جسدًا، لكن إرثه باقٍ، شامخٌ كأفق لا تغيب شمسه. كان ناقدًا موسوعيًا، وشاعرًا مجيدًا، ومربيًا صادقًا، جمع بين حدة العقل وشفافية الروح. لم يقرأ النصوص فحسب، بل قرأ العقل العربي ووجع الإنسان العراقي، وأضاء لنا دروبًا من التفكير والنقد والإبداع. بإرثه الغني المتنوع سيبقى حاضرًا بيننا، منارة تهدي الأجيال، واسمًا خالدًا يُذكر مع كبار صانعي الفكر والأدب في العراق والعالم العربي.


مشاهدات 625
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/09/22 - 3:01 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 4:20 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 467 الشهر 19704 الكلي 12037577
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير