الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
معاذ عبد الرحيم.. بين الحلم القومي ومحنة الصحافة والسياسة

بواسطة azzaman

معاذ عبد الرحيم.. بين الحلم القومي ومحنة الصحافة والسياسة

محمد علي محيي الدين

 

في قضاء سوق الشيوخ، أحد أرياف الناصرية الهادئة التي تنضح بروح الجنوب، وُلد عام 1932 رجلٌ سيغدو بعد عقود شاهدًا على تحولات العراق العاصفة، اسمه معاذ عبد الرحيم. كان منذ مطلع شبابه مأخوذًا بفكرة الأمة ووحدة المصير، يتأمل في شوارع مدينته الصغيرة ، مستقبل البلاد التي تتنازعها الولاءات والمطامح. بدأ حياته متعاطفًا مع حزب الاستقلال القومي، غير أن الحلم القومي الأكبر جذبه حين التقى بفؤاد الركابي ورفاقه، فكان معهم في عام 1949 من مؤسسي أول خلية لحزب البعث في الناصرية، قبل أن يحمل بذرة الحزب إلى بعقوبة، حيث صار أول بعثي يُعتقل هناك في مظاهرات تشرين 1952 ضد النظام الملكي، وهو لم يزل طالبًا في المعهد العالي.

يد السلطة

في تلك السنوات المضطربة، كان القلم والسجن وجهين لحياة واحدة، فبعد أن اتجه إلى الصحافة عام 1953، لم تلبث أن امتدت إليه يد السلطة مرة أخرى في عام 1954، ليُعتقل بتهمة نشر الفكر القومي. كلّفه فؤاد الركابي لاحقًا بطباعة منشورات الحزب، بعد أن تلقى تدريبًا على يد بعض الشيوعيين في إطار الجبهة الوطنية، فكان يجمع بين الحماسة القومية ودقّة الحرف الصحفي، بين السرية والمغامرة.

وجاء عام 1959 لتقلب الموازين، حين تورط حزب البعث بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد. أُلقي القبض على معاذ عبد الرحيم مع آخرين، وهناك، خلف الأسوار، كان له دور في تنظيم صفوف الحزب مع أحمد حسن البكر. لكنه ما لبث أن غادر صفوف البعث نهاية العام نفسه، بعد أن أطاح ميشيل عفلق بصديقه فؤاد الركابي من رئاسة الحزب، فاختار أن يكون قوميًا مستقلاً، حرّ الفكر، لا يُملى عليه موقف.  تلك الحرية كلّفته الكثير؛ ففي عام 1961 اضطر إلى الهرب من العراق، متنقلاً بين إيران والكويت ومصر، إلى أن شهد انقلاب 8 شباط 1963 الذي أوصل عبد السلام عارف إلى الحكم، فقرّبه الأخير إليه، وعهد إليه برئاسة تحرير جريدة الجمهورية. عاش في ظل النظام الجديد صحفيًا بارزًا، يتنقل بين مؤسسات الدولة الإعلامية بعد انقلاب 1968عمل في وكالة الأنباء العراقية، ثم مستشارًا صحفيًا في السفارة العراقية بالمغرب، وبعدها مديرًا للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإعلام، وصولًا إلى منصب نائب رئيس نقابة الصحفيين العراقيين.لكن معاذ عبد الرحيم ظلّ يطارد الحقيقة لا المناصب، حتى إذا اشتد الخناق في تسعينيات القرن الماضي، غادر العراق عام 1995 إلى الأردن، وانضمّ لفترة قصيرة إلى حركة الوفاق الوطني مع إياد علاوي، قبل أن يتركها ويهاجر إلى الولايات المتحدة لاجئًا سياسيًا. هناك عاش بعيدًا عن وطنه حتى الاحتلال الامريكي عام 2003، فعاد إلى بغداد مثقلاً بذكريات طويلة من النضال والمنفى.وفي عامه التسعين، في 24 آب 2022، غيّب الموت ذلك الصحفي العتيق، الذي بقي حتى أيامه الأخيرة يسرد للتاريخ ما شهدته عيناه. فقد ترك خلفه سلسلة من الشهادات المصورة في برنامجي شهادات خاصة مع الدكتور حميد عبد الله، وخطى مع الدكتور علاء الحطاب، ليودع الحياة بعد أن أدى شهادته للأجيال.

ولعلّ أجمل ما تركه عبد الرحيم قبل رحيله بست سنوات كتابه «أوراق من ذكرياتي: ثورة 14 تموز وخلاف عبد السلام عارف مع عبد الكريم قاسم»، وهو ليس مذكرات سياسية بالمعنى التقليدي، بل تأملات رجلٍ عاش قلب العاصفة، سجّل فيها رؤيته للأحداث التي “أدت إلى انهيار ثورة تموز الجبارة”، كما وصفها. استعاد فيها أجواء أواخر العهد الملكي، من خطاب نوري السعيد الشهير مطلع 1958 إلى تكوين جبهة الاتحاد الوطني، ثم إلى تفاصيل الخلاف المرير بين قاسم ورفيقه عارف.

قمة عربية

وفي تلك الصفحات يروي حادثة مؤثرة حين حُرم من لقاء جمال عبد الناصر أثناء مؤتمر القمة العربي في القاهرة عام 1964، رغم أنه كان قد حصل على موعد بفضل اتصاله بمدير مكتب الرئيس المصري، عبد المجيد فريد، غير أن عبد السلام عارف غضب حين علم بالأمر، وأمره بالعودة فورًا إلى مقر الوفد العراقي، فوجد نفسه في مأزق وصفه بأنه “أحد أكثر المواقف حرجًا في حياته”.

أما مغامرته في دخول الكويت بلا جواز، عابرًا شط العرب خلسة من الحدود الإيرانية، ثم عمله تحت اسم مستعار في جريدة الحرية قبل أن يُكشف أمره، وهروبه ليلة 14 تموز إلى منزل فؤاد الركابي مرددًا عبارته الشهيرة: “نلتقي غدًا فمع الصباح رباح” — فهي فصول من حياةٍ مفعمة بالمخاطر، وحكايات رجلٍ ظلّ يلاحق الحلم القومي حتى آخر أنفاسه.وعندما انعقد المؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية للصحفيين العراقيين كان في طليعة المشاركين في المؤتمر، ولمست فيه روحه الوطنية الوثابة وحرصه الشديد على نقاء الكلمة واصالة الحرف واندفاعه للعمل الوطني رغم ثقل السنين ومرارة الايام، وتولى رئاسة المؤتمر لما يحضا به من مكانة بين الصحفيين والاعلاميين، وكان هذا اول تعارفي معه ولقائي به وجها لوجه.إن معاذ عبد الرحيم لم يكن مجرد سياسي أو صحفي، بل شاهد على عصرٍ كامل، عاش تحولات العراق الكبرى، وترك في سيرته سيرة وطنٍ يتقلب بين الانقلابات والأحلام، بين الطموح والانكسار، كأن حياته مرآة لتاريخ العراق الحديث بكل ما فيه من مجد ومرارة.

 


مشاهدات 48
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/11/15 - 12:54 AM
آخر تحديث 2025/11/15 - 2:27 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 91 الشهر 10397 الكلي 12571900
الوقت الآن
السبت 2025/11/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير