الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة نقدية مختصرة في نص الشاعر كبسور عبدالحمن


استيحاء الحضور في الغياب

قراءة نقدية مختصرة في نص الشاعر كبسور عبدالحمن

عبد الكريم الحلو

 

 

النص :

أنتِ تتأهبين للخروج

تتأنق الطرقات!

البارحة

وبينما أنتِ تقفين أمام المرآة

تمسكين أحمر شفاهكِ

سمعتُ الطريق

يقول لأرصفته

ارتدوا هذه القبعات

تبدوُ جميلة عليكم

ويقول لآخر أصلح ربطة عنقك جيدًا.

يتهيئون لكِ

وأنتِ في وقفتكِ هذه

تعقدين ضفائركِ المتطائرة

يختنق شاعر في مكان ما

من هذا العالم.

بينما

وأنتِ بأصابعك الناعمة

تحكمين حمّالة صدرك

تضيقين الحصار على المارّة

ورواد المقاهي والعاطلين عن العمل

أولئك الذين ينتظرونك على الطرقات

أخشى أن تضيقنها أكثر، ربما يدوخ العالم.

بينما أنتِ

بفستانكِ القرمزي

إذ ترخينه؛ تُصاب الريح بالدُّوار.

الشاعر: كبسور عبدالرحمن – السودان

القراءة النقدية :

مقدمة :

حين تتأهب المرأة للخروج، لا تكون مجرد جسد يخطو في الشوارع، بل حدث دراماتيكي يهتز له العالم كله.

الطرقات تتأنّق، الأرصفة تنتصب كما لو كانت جنودًا يستعدون لاستقبالها، والريح تصاب بالدوار حين يفلت فستانها القرمزي.

ليس الأمر مجرد حركة يومية، بل طقس من طقوس القوة الخفية التي تملك القدرة على خلخلة كل توازن.

في هذه اللحظة، تصبح الأنثى محور الكون الصغير والكبير معًا، حضورها يحوّل المألوف إلى استثناء، ويجعل الصمت مكتظًا بالدهشة.

الشعر هنا لا يصف، بل يشهد على الانهيار الجميل للعالم أمام فعل بسيط: أحمر الشفاه، ضفيرة، نظرة، خطوة.

الشاعر لا يقف بعيدًا، بل يختنق ويتأمل ويتوه، لأنه يعلم أن هذه اللحظة، بكل بساطتها ووقوعها في الواقع، تحمل طاقة محرّكة لكل شيء حولها.

إنه نص يشتعل من الداخل، متفجر بالدهشة، يلهب الحواس، ويجعل كل تفصيلة يومية مفتاحًا لكائنات خفية، ولعالم يتنفس ويحتفل بانتصار الجمال على الرتابة.

تحليل النص:

نصٌّ يشتغل على أنسنة المكان بوصفه كائنًا مُحبًّا، متأهّبًا، ومشاركًا في طقس الظهور.

فالطرقات لا تُعبد هنا، بل تتأنّق، والمرآة ليست سطحًا عاكسًا، بل لحظة إعداد كوني، كأن خروج الأنثى حدثٌ كونيٌّ يستدعي النظام والجمال معًا.

أجمل ما في النص أنّه يبني جماليته على الإزاحة:

الطريق يتكلّم،

الأرصفة ترتدي القبعات،

الريح تُصاب بالدوار،

والشاعر يختنق

وكل ذلك بسبب فعل أنثويٍّ يوميٍّ بسيط (أحمر الشفاه، الضفائر، الفستان)، لكنه يتحوّل شعريًا إلى قوة خلخلة للعالم.

ثيمة الفتنة هنا لا تُقدَّم بوصفها إغواء جسدي، بل كـ اختلال في توازن الوجود:

حين تُحكم حمّالة الصدر، يضيق العالم،

وحين يُرخى الفستان، تترنّح الريح.

إنها لغة تشتغل على المفارقة بين الصغير واليومي، والكوني والعام، فتُنتج دهشة ناعمة لا صاخبة.

واللافت أنّ النص لا يكتفي بتوصيف الأثر، بل يُدخل الشاعر ذاته كضحية جمالية:

" يختنق شاعر في مكان ما من هذا العالم"

وكأن الكتابة نفسها عاجزة أمام فائض الحضور، فتتراجع إلى موقع الشهادة لا السيطرة.

نصٌّ أنيق، حسيّ، وذكيّ في توزيعه للصورة،

يحفظ توازنه بين الإيروتيكي والوجداني،

ويُحسن استخدام التفاصيل بوصفها محركات دلالية لا زينة لغوية.

تحية للشاعر كبسور عبدالرحمن على هذا الاشتغال الرشيق،

وللنص الذي يعرف كيف يجعل العالم يتأنّق دون أن يرفع صوته.

خاتمة :

وهكذا، حين يغادر حضورها الغرفة أو الشارع، لا تغادر هي وحدها، بل يترك وراءه العالم كله مشتعلًا بالغياب والحضور في آن واحد. الأرصفة، الريح، الشوارع، وحتى الشعر، كل شيء يهتز ويترنّح أمام طاقة بسيطة، يومية، لكنها قوية بما يكفي لتغيير قوانين الكون.

الشاعر هنا لا يكتب مجرد وصف، بل يشهد على انفجار الحياة في لحظة عابرة، على قوة الجمال الذي يربك الطبيعة ويخلخل العادات، على قدرة التفاصيل الصغيرة على إشعال الانبهار والفقد معًا. كل حركة، كل خفقة قلب، كل لمحة ضفيرة، تصبح شرارة تشعل الكون.

وفي النهاية، يدرك القارئ أن هذا النص ليس مجرد قصيدة، بل بركان شعري لا ينطفئ، ثورة حواس، ومحنة جمال تدعونا لنقف أمام العالم باحترام وإعجاب، لأننا تعلمنا أن حتى أصغر الحركات يمكن أن تجعل كل شيء يشتعل.

 

كاتب وناقد ادبي عراقي

 


مشاهدات 44
الكاتب عبد الكريم الحلو
أضيف 2025/12/30 - 4:04 PM
آخر تحديث 2025/12/31 - 12:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 29 الشهر 22967 الكلي 13006872
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير